وداعا جمل المحامل
بقلم: علي بدوان
بالرغم من قساوة «حق الموت ورهبته»، وبالرغم من الخسارة التي يسببها أحياناً في وداع الرجال الاستثنائيين، ننحني أمام جلل الموت، ورهبة الحق الآتي والعابر إلى جسد وروح كل كائن حي، ونقول لك وداعاً أبوعمار، يرددها لك محبوك وأبناء شعبك الوفي في فلسطين والشتات، ويرددها لك ممن كان من المتفقين أوالمختلفين معك سياسياً وتنظيمياً على حد سواء، في البيتين العربي والفلسطيني، وفي البيت الفتحاوي في الوطن والشتات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وفق تصنيف أدبياتنا الفلسطينية.
وداعاً أبو عمار، القائد والرمز التاريخي للشعب الفلسطيني، رمز الوطنية الفلسطينية التي نهضت على يديك من بين ركام النكبة، ورماد الهزائم، وأنت تنحو نحو الحق الأبدي خالداً في ضمير فلسطين وشعبها، كما رحلت من قبلك القوافل الطويلة التي رصفت طرق العودة إلى فلسطين بجماجم مئات الآلاف من الشبان والشابات، وبدموع اليتامى والثكإلى والأرامل. فمن مخيم اليرموك حين رمقت نظري على شخصك عام 1968 أثناء تشييع قافلة من شهداء حركة فتح.
ولم أكن أبلغ من العمر ثمانية أعوام، هرعنا بالمئات من أطفال وشبان ورجال المخيم نحمل أجساد الشهداء، ونسعى لنرى «رجل فلسطين» الآتي إلينا من «معسكر الهامة وميسلون» قرب دمشق حيث كان مقر القيادة العسكرية لحركة فتح. وفي اللقاء الأخير معك في قاعة الأندلس في القاهرة عام 1998 كنت كما عهدناك تسأل عن كل واحد، وعن كل فرد، وتحاول ألا تستثني أحدا من حملة البيارق والبنادق في الماضي القريب والحاضر الراهن.
وداعاً أبو عمار، وكنت الأب قبل القائد الكبير، مرتفع السمو، البعيد عن الكيد والضغائن «المتعالي عن دسائس وفساد أقزام القوم» الذي اتسع لكل «الأبوات»، فتحملت جزءاً مهماً من رعونتهم وطيشهم بل وفسادهم السياسي والتنظيمي وغيره، من أجل أن تبقي الحديقة الفلسطينية مفتوحة للجميع «لعل أشواكها الضارة تتحول إلى ورود ورياحين عطرة، أو تندثر رماداً تذروه الرياح».
وداعاً أبو عمار، يرددها الجميع من التيارات والمشارب الفكرية المختلفة في الساحة الفلسطينية، بعد أن تحول حصارك الرابع في رام الله بعد حصارات جرش وبيروت وطرابلس إلى بصمات مؤثرة لا يمحوها زحف الزمن في التاريخ المعاصر للحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد أن انهارت مفاوضات كامب ديفيد 2، حين قلت في واشنطن عاصمة القطب الأوحد، وبلغة دبلوماسية كلمة «لا» الفلسطينية التي أراد بيل كلينتون وايهود باراك حينذاك نقيضها من أجل شطب حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وشطب حقنا الأبدي في قدس الأقداس.
وداعاً أبو عمار، ربان السفينة، وقد وصلت بأبنائها إلى تسعة ملايين ونصف المليون من الفلسطينيين في بحر متلاطم الأمواج، وتحولت إلى الرمز التاريخي الثالث من الرموز المعاصرة للحركة الوطنية الفلسطينية بعد النكبة، فخلفت المرحوم أحمد الشقيري صاحب السيرة العطرة الزكية، ومن قبله مفتي فلسطين المرحوم الحاج محمد أمين الحسيني. وغدوت رمز الوطنية الفلسطينية، وحامل المفتاح السحري لوحدتها وتراصها، الذي قد «يختلف الفلسطينيون معه لكن لايختلفون عليه».
وداعاً الرئيس ياسر عرفات، كاريزما المقاومة والانتفاضة والسياسة، أول الرصاص.. أول الحجارة، فإرهاصات الطلقة الأولى التي دوت في سماء بلدة عيلبون شمالي فلسطين في 1 يناير 1965 على يديك، وعلى يد الرعيل الأول من أبناء الثورة والمقاومة، معلنة فجر الانطلاقة المعاصرة للثورة الفلسطينية المسلحة، تتوالد الآن صموداً، وإقداما.
وتواصلاً في العطاء بالرغم من هول المواجهة، والخلل الفادح في ميزان القوى المحلي والإقليمي، وبالرغم من السبات العربي الرسمي والشعبي، ووصول الموقف العربي إلى قاع الحضيض في المساومة اللامتوازنة، والشعب الفلسطيني يذبح من الوريد إلى الوريد في رفح وجنين.
الرئيس ياسر عرفات، نفتقدك، وأنت «الناسك الزاهد ـ وشيطان السياسة وفن البقاء المشروع» محافظاً على الوفاء لكل من سار في ركب المسيرة الفلسطينية منذ تأسيس منظمة التحرير في العام 1964 بقرار من مؤتمر القمة العربية آنذاك. وحتى الذين انشقوا عنك، وأطلقوا عليك نيران مدافع الميدان الثقيلة (هاوتزر 155) في الحروب الداخلية الفلسطينية ـ الفلسطينية المشؤومة في طرابلس ووادي البقاع ومنطقة بعلبك في لبنان عام 1983 عادوا إلى حركة فتح حيث احتضنتهم، احتضان الأب الكبير والقائد التاريخي الذي يعلو فوق ضغائن ومثالب الكادر.
وداعاً رئيس فلسطين الشرعي الأول منذ النكبة و«جمل المحامل» فالاطراء على شخصك ودورك الاستثنائي لا يعفيك أيضاً من النقد، ومن تحميلك للمسئولية عن الكثير من المثالب، بالرغم من الظرف القاسي المحيط بك جراء الحصار الرابع الذي تتعرض له داخل فلسطين، ولا يعفيك من المسئولية عن المبالغة في سلوك البطريركية الأبوية.
وداعاً الرئيس ياسر عرفات، ونحن نرفع الدعاء ونصلي وندعو بالرحمة لك في جنائن الخلد الأبدي، نعزي أنفسنا، والشعب الفلسطيني، وحركة فتح باعتبارك الاستثنائي، وكما كنت تردد دوماً «العهد هو العهد»، وأول العهد النهوض بحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، ونفض الغبار المتراكم على أداء بعض أطرها.
فحركة فتح تجد نفسها الآن أمام تحد بالغ الخطورة، فإما أن تحافظ على ديمومتها، وتطور من أدائها الداخلي، وتعيد تجديد حيويتها وبناء مؤسساتها بشكل معتبر مستفيدة من دروسها الثمينة، ومن تجاربها التي أكسبتها منعة وشيئا من الحصانة الداخلية التي حمتها من التشقق والتشرذم والتشظي المتتالي إبان أزماتها العاصفة خصوصاً زمن الانشقاق الكبير عام 1983.
كما حصل مع باقي القوى الفلسطينية وحتى الأحزاب العربية الكبرى، واما فان القدر سيحملها ويدفع بها نحو التقوقع والتكلس والتحول إلى حزب سلطوي جديد في الخارطة السياسية العربية، كما هو حال الأحزاب السلطوية الحاكمة في بعض بلدان العالم الثالث.
البيان الاماراتية : 12/11/2004