رأيـت عرفـات يتجــول فـي القـدس
بقلم : *الياس عطاالله
دعك من تفاهة الوراثات وعبدة أوثان العروش والقصور. فتلك دوما كانت من علامات أزمنة الاندحار والتخلي ومغادرة التاريخ. لا معنى للجغرافيا بدون حضور التاريخ، بدون المعنى. والمدن مملة بدون عبق الحرية والمعنى والرموز. فلسطين هي الرمز والمعنى وبقول أرحب وأفضل: فلسطين هي اكتمال المعنى.
سمّها ما شئت:
ارض الحضارات، ارض الديانات، مهد البدايات. انها اكتمال المعنى.
لا اكتمال للمسيحية بدون فلسطين.
لا اكتمال للاسلام بدون فلسطين.
لا اكتمال لليهودية بدون فلسطين.
لا اكتمال للعروبة بدون فلسطين.
ولا اكتمال للانسانية بدون فلسطين.
فلسطين التحول من العصبية للحضارة، سحر العودة من يباس الحقد والجغرافيا الى طراوة التاريخ. يوم كنا الحضارة كانت فلسطين حضن اللقاء. وكانت بغداد والشام والقاهرة وبيروت وصيدا وصور. كانت العلوم والفلسفات والشعر والموسيقى والأسئلة الصعبة والأمان والتسامح وسلاسة الاختلاف.
وهل ابالغ ان قلت ان ياسر عرفات الرمز هو طلة نضرة لروح تلك الحضارة؟ يوم حاصروه في رام الله اطلت كوفيته في قداس الميلاد في بيت لحم. ويوم عزّ عليه السلاح حمله المطران كبوجي في جبته المقدسة. ويوم طردته عمّان استقبلته بيروت. ويوم ودّعناه في بيروت قال: أنا عائد الى القدس. قلنا بعض الخيال لا يضر. واذ به يولد هناك.
ويوم استحضروا لنا صورة متلبّسة شبح الكراهية السالفة في زي بن لادني، بحركة متعالية من يده المقدسية طرده من حاضرنا الى كهوف طورا بورا.
حاصروه فانتشر. أقفلوا عليه العواصم العربية و القمم فماتت من التصحر والضجر. اجتمعوا عليه، وكرسيه الفارغ كان الأكثر حضوراً. انه فلسطين، وفلسطين هي اكتمال المعنى.
يا حفاري القبور، ستبقى قبوركم فارغة ولا تحضّروا صلاة الغائب. فمنذ نقلوه الى باريس، أشهد أني رأيته كل يوم يتجول في القدس وبيت لحم والجليل متخفياً على شكل زيتون وبرتقال وأطفال. وقد صرتم جميعاً تعلمون لا جدوى قتل كل الاطفال والزيتون والبرتقال...
*("النهار" اللبنانية 10/11/2004)