الــرئيس الشهيــد
بقلم: عثمان أبو غربية
عبر مسيرتها، ومحطات هذه المسيرة الطويلة والمليئة والصعبة، تعرضت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" إلى كثير من الأزمات، وفي غمار هذه الأزمات كان أبو عمار دائماً في بؤرة الحدث، يتصدى بنفسه وبكل ما لديه من طاقة وحيوية وحوافز ومقدرات في المراوغة والشد والجذب والحسم، ولعل من هذه الأزمات الصعبة ذلك الخلاف الحاد في اللجنة المركزية للحركة حول الانطلاقة، وعلاقات فتح، والتخطيط لمسيرتها واعدادها، واستعدادها وذلك في النصف الثاني من الستينات. وقد أدت تلك الأزمة إلى مغادرة عدد من مؤسسي حركة فتح لصفوفها ومن أبرزهم المؤسس عادل عبد الكريم (أبو أكرم)، حيث وقع الخلاف الأعمق بينه وبين أبو عمار، مما أدى إلى قطيعة صعبة لم يكن بمقدور احد ملامستها.
وقد ربطتني مع أبو أكرم صداقة خاصة واحترام وثقة كبيرة ولم تنقطع صلتي به طيلة معرفتنا إلا في ظروف الانقطاع الجغرافي. وفي إحدى الإشكاليات التي تعرض لها نجله أكرم اتصل بوالده ناشداً المساعدة في الحل، فطلب منه أبو أكرم وكان سامياً وشديد العفة ان يتوجه إلي، ولم يكن من خيار لي إلا ان أذهب إلى أبي عمار.
اصطحبت أكرم وكان قد اصبح رجلاً مكتملاً وهو الذي نشأ طفلاً بين يدي أبو عمار وذهبت به إلى مكتب (23) في دمشق، وإذا أبو عمار على أبواب غرفة مكتبه يهم بالتوجه إلى لبنان. فوقفت معه وبرفقتي أكرم وطلبت منه ان يخمن من يكون هذا الشاب! تفرسه أبو عمار وكان من الواضح انه لن يعرفه، فسارعت بإنقاذه وقلت له هذا أكرم ابن عادل عبد الكريم.
فوجئت بابي عمار يأخذ أكرم بين ذراعيه يعانقه ويقبله ويداه ترتجفان، يغلب عليه تأثره وقد هزته المفاجأة، رأيت أبا عمار الكبير ورأيت أبا عمار الإنسان.
كانت مشكلة أكرم تتطلب تأمين مغادرته خارج البلاد، فأشار أبو عمار لمرافقيه التوجه مع أكرم لإحضار حقائبه من منزله، وبقيت مع أبو عمار ننتظر عودتهم، وفتحنا قلبينا حول عادل عبد الكريم وقرر أبو عمار ان يذهب اليه في أول زيارة يقوم بها إلى الكويت.
لا أستطيع ان انسى لحظة لقائه بالشاب أكرم عادل عبد الكريم، فقد كان موقفاً انسانياً خاصاً ودافئاً بكل المعاني.
تكرر الموقف تقريباً بعد سنوات عندما نجوت من الأسر لدى قوات حزب الكتائب، وتكرر الموقف والمشهد في مفاصل ومفارقات أخرى.
أبو عمار إنسان حقيقي، ويكون الإنسان فيه ابرز ما يمكن في الوقت المناسب واللحظة الضرورية وعندما تستدعي الحاجة، ولا يمكن إلا ان تجده أخا وصديقاً وكبيراً ودافئاً.
مع ذلك كنت اعتقد دائماً انه لا بد من إجادة فن المسافة مع ياسر عرفات، لأنك إن كنت قريباً منه أكثر مما ينبغي فإن دوامته آسرة، وإن كنت بعيداً عنه أكثر مما ينبغي فإنك تصبح خارج دائرة الفعل.
لقد تمكنت ان أضع خط المسافة معه بدقة حازمة، تماماً كما أردت، وقد جعلني هذا الخط في الموقف الصحيح المريح، ولكن خط المسافة هذا خط صعب لأن جاذبية ياسر عرفات طاغية، وهو من النوع الذي تعيش في ظلاله دوامة لا تستقر.
كان ياسر عرفات واضحاً إلى درجة اللغز، تستطيع ان تقرأه وتفسره بوضوح شمس الصباح، وتحتار معه وفيه وكأنه إشكالية من إشكاليات عالم آخر، وكان أشبه ما يكون بالمحيط بعمقه واتساعه وتياراته وأعاصيره وقدرته على احتواء الأشياء بغثها وسمينها.
كثير الفضائل وكثير الأخطاء، اقرب البشر إلى الملائكة وأبعدهم، فيه ذرائعية السياسي وإنسانية الإنسان بأرفع تجلياتها، يدخل في خبز الآخرين وقمحهم ومرضهم وشفائهم وأفراحهم واتراحهم وله لمسة خاصة تترك أثراً مباشراً وساحراً.
كان ياسر عرفات يتمتع بروح أديب وفنان وبحس ثقافي وكان يحفظ كثيرا من الشعر القديم ويحترم المثقفين وقد اهتم بهم وبرعايتهم ونشأت له صلات خاصة مع محمود درويش ومعين بسيسو وابو سلمى وغيرهم، واحتضن بعض المثقفين والشعراء العرب ومنهم الشاعر العراقي سعدي يوسف، وكذلك كان يتمتع بلياقة خاصة تجاه المرأة واهتمام بقضاياها وايمانا بدورها. وكان محبا للطفولة والاطفال، وقد منح صورة لكل من رغب في اخذها معه.
إلى جانب كل اضاءاته العصرية كانت تسكنه روح من الايمان والتدين وكان كثير القراءة للقرآن واستلهامه واستلهام معانيه ويتمتع بالاستشهاد بالتاريخ وتجاربه الخاصة وبالاستماع للروايات والاحاديث عن التاريخ.
غمر وفاء ياسر عرفات الكثيرين سواء من اخوانه ورفاقه الجدد أو القدامى، وحتى الذين عارضوه في فتح وفي الساحة الفلسطينية بل ومن الذين انتقدوه بقسوة أو انشقوا عليه. لم يترك احدا وصلت إلى مسامعه احتياجاته المعيشية أو الصحية الا وسارع بالاتصال والمبادرة والمساعدة.
ولم يترك احدا من الذين شاركوه اللحظات الصعبة إلا وبقي وفيا له طوال عمره، وعندما اتخذت فتح قرارها عام 1967 بالانطلاقة الثانية وتوجيه دورياتها إلى الأرض المحتلة كان ياسر عرفات احد الذين شاركوا في دوريات العمق واضطر للاختباء في أكثر من مكان وموقع وبيت، فلم ينس احدا طوال حياته ممن آووه أو ساعدوه أو وقفوا معه وقد تبنى احتياجاتهم بل وغفر خطايا للكثيرين منهم.
واستمر في كل حياته شديد الحنان والاحترام لرفاق السلاح الاوائل وخاصة الذين ساهموا في المراحل الصعبة التي سبقت معركة الكرامة.
عاش وفيا لجميع الشهداء والجرحى والاسرى، وتبنى ابناءهم وتعليمهم، وتبنى مدارس الصمود وابناء الشهداء، وحافظ على تقليده الذي لم ينقطع بزيارتهم وتناول الطعام وسطهم وقضاء الاعياد معهم ورعايتهم، وبقي ابناء بعض الشهداء ورفاقه القدامى في دائرته الخاصة وحوله وفي حرسه.
امتد وفاء ياسر عرفات ليغمر الكثيرين من المناضلين والاصدقاء العرب وغير العرب الذين ضاقت بهم الأرض أو المت بهم النوازل أو اصبحوا في دائرة الاضطهاد.
بقرار من القيادة السورية قبل قيام الحركة التصحيحية وقد كان على رأس تلك القيادة الدكتور نور الدين الاتاسي وصلاح جديد ويوسف زعين وغيرهم تم دخول الجيش السوري لنجدة الثورة في الأردن بشكل معاكس للمعادلة العربية والدولية آنذاك، وكان نظامهم في الاساس قد تبنى دعم فتح ومساعدتها، وقد اعتقلوا بعد الانقلاب الذي قاده الرئيس المرحوم حافظ الاسد ضدهم، وأبّدوا في معتقلاتهم، وعلى الرغم من ان مد يد العون لهم كان مجازفة يمكن ان يكون ثمنها باهظا إلا ان ياسر عرفا لم يتردد في عمل كل ما استطاع سرا وعلنا.
وكذلك فعل للمعارضة العراقية من القوى الديمقراطية والوطنية والتقدمية التي تم تشريدها في اوائل السبعينات، لقد تم استيعاب كوادرها في اجهزة فتح الاعلامية والسياسية وحتى العسكرية وقد اصبح اللواء حسن النقيب في اطار المرجعيات لقضية فلسطين لتمتين المسيرة نحو الأهداف.
لم يترك بعداً من الأبعاد الا وأعطاه الاهتمام والمجهودات، وقد بحث عن فلسطين في كل مكان في العالم وحملته فلسطين إلى كل مكان في العالم وآمن بحريتها وباستقلالها دائماً.
وعليه فقد كان الاستقلال الوطني الفلسطيني بمضمونه السيادي في إطار دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس هو معركته الحقيقية وهو سره الأكبر، ولغزه المحير، ووضوحه الأكثر استدعاءً للحيرة.
لقد استشهد ياسر عرفات لأنه رفض المساومة على حلم الاستقلال، وكذلك فقد استشهد للبعد الآخر والذي هو جوهر بنيان الاستقلال في حلمه، وذلك هو القدس.
استشهد ياسر عرفات للسببين: الاستقلال والقدس وعاش لقضيتين هما الاستقلال والقدس، وأخلص أعظم ما أخلص لهاتين القضيتين. وقال كلمته الأخيرة بشأنهما في كامب ديفيد عندما قال لمحدثيه: ادعوكم لحضور جنازتي!.
لقد سار ياسر عرفات وسارت معه فتح على خط التوازن الدقيق الذي يجمع ما بين بعدين الأول الوطنية الفلسطينية والثاني الممكن دولياً وإقليميا، بهذين البعدين اجاد ياسر عرفات معادلة البقاء والنجاة وطنياً وخارجياً، وبهذا أجادت حركة فتح معادلة البقاء وطنياً وإقليميا.
حاول ياسر عرفات ان يطوع الوطني لكي يلتقي مع الممكن الدولي، وجاهد في تطوير الممكن الدولي لكي يلتقي مع الوطني حتى وصل إلى معادلة تتلخص في قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس في الأرض المحتلة منذ عام 1967 وضمن حدود خطوط الهدنة 1949 وأصبحت هذه المعادلة أساس ثوابته التي تمسك بها وبالطريق لتحقيقها، وكان هدفه هو الأهم.
وإذا كان من المفيد ان انوه إلى تجربتي الخاصة معه بهذا الصدد ضمن حدود دوري ومواقعي فقد تطور موقفي منه عبر المراحل، حيث وقفت إلى جانبه تماماً في معركة الوطنية الفلسطينية وانبعاثها وجعلها الرقم الصعب، وجعل النضال من اجل فلسطين هو رأس سلم الاولويات.
ووقفت ضده وهو يحاول ان يطوع الوطني لكي يلتقي مع الممكن الدولي، ولم أقف ضده وهو يحاول ان يطور الممكن الدولي، ولم أقف معه في حدود الممكن الذي قبله، ولكنني وقفت معه في تمسكه بالثوابت، ولكن الحقيقة التي لامستها ان ياسر عرفات وانا كذلك كنا ندرك ان التاريخ لن يقف عند حدود ما تفرزه معادلة ميزان القوى القائم في العالم.
كان ياسر عرفات يعتقد ان مرحلته ومهمته في حدود معادلة ميزان القوى القائم، أي في حدود هذه المرحلة التاريخية العالمية، وقد اعتقدت دائماً انه يجب ان يستمر التأسيس لما بعدها، ولعل الفارق العملي في كثير من الأوقات والضرورات لم يكن كبيراً.
وهنا لا بد ان أُلخص وألامس التفاعل بيننا في مرحلة الدخول إلى الوطن وما قبلها، حيث كان موقفي مغايراً لموقفه في عام 1988 وفي المجلس الوطني عندما تمت الموافقة على القرار 242 وعلى مبدأ الدولتين عبر وثيقة الاستقلال، وكذلك كان مغايراً لموقفه حول مشروع اتفاقية اوسلو وقبولها، وقد صوّتُ ضد اوسلو في الأطر التي شاركت فيها، ولكنني وقفت مع الدخول إلى ارض الوطن لأنني أدركت ان الميدان والمعركة قد انتقلا إلى ارض الوطن.
في تلك الأثناء كانت علاقتي بياسر عرفات علاقة تباعد، وهناك الكثير من التفاصيل التي شابت هذا التباعد، ولكنه التقط قراري بالدخول إلى ارض الوطن فحاول أكثر من مرة دعوتي للقاء، في الأخير التقينا في جلسة كان من الواضح ان الهدف منها هو إعادة صياغة علاقتنا.
عرض علي أبو عمار في ذلك اللقاء بعض مواقع العمل وقد ترددت في قبولها، فطلب مني مراجعة نفسي والتفكير، واتفقنا على موعد آخر. وقد قلت لياسر عرفات في لقائنا الثاني:
بعد زيارتك للقاهرة عام 1984 سألت في المجلس الثوري: إلى أين نحن ذاهبون؟ هل نحن ذاهبون إلى الحكم الذاتي؟!
وأنا الآن أوجه إليك سؤالي نفسه: إلى أين نحن ذاهبون؟
أجابني ياسر عرفات: إلى الدولة الفلسطينية المستقلة، فقلت له: استقلال حقيقي؟ فأجاب استقلال حقيقي كامل. فسألته وعاصمتها القدس؟ فقال: وعاصمتها القدس وهذا عهد بيننا.
ومد يده ووضعها بيدي معاهداً، وقد غمر وجداني ان ياسر عرفات مخلص وعازم على الوصول إلى هذا الهدف.
قبلت الموقع الذي عرضه علي وقبلت المشاركة معه، وكنت دائماً شديد الإيمان ان التاريخ لا يعرف الحلول النهائية، وان كل حل هو وليد ميزان القوى لمرحلته التاريخية العالمية، وان تغير المراحل يحمل معه تغيراً في الحلول، وكان من المهم ان نتمكن في مرحلتنا من وقف تمدد الغزوة التي تعرض لها وطننا لان وقف تمدد الغزاة هو بداية عدهم العكسي تاريخياً.
في هذه المرحلة وجدت نفسي متطابقاً في الخط الأساسي مع ياسر عرفات ولم يخلُ الأمر من اختلاف الرؤى، ولكن ثمة قضايا كان الخلاف فيها بيننا صريحاً وواضحاً حتى في الأطر وهي: الإصلاح والنهوض الذاتي، والتنظيم، ومنهجية العمل ومرجعيات القدس، والسيطرة وضبط الإيقاع وضبط الفوضى في الانتفاضة. وكان ثمة فارق بالنسبة لي بين المقاومة والصلابة الوطنية المشروعة وبكل وسائلها بما في ذلك السلاح، وبين الفوضى وعدم السيطرة، حيث كنت أريد المقاومة ولا أريد الفوضى.
إلا ان ياسر عرفات كان أكثر اهتماماً بالحالة الضاغطة وبإطلاق العنان الذي كان يعتقد انه يستطيع الإمساك بزمامه عندما يمسك بالسقف السياسي الذي تفاني من اجله إلى حد الاستشهاد، واظهر تصميمه الحازم عندما قال شهيداً شهيداً شهيداً.
في واقع الأمر فقد كان ياسر عرفات يرفض في المرحلة الأخيرة إغلاق باب الصراع بدون الإمساك بهذا السقف.
عندما اختل التوازن وتعقدت قراءة رياح العالم وغيومه واصطدم ياسر عرفات مع الممكن دولياً فيما يخص بُعد الاستقلال الحقيقي، والقدس الحقيقية ضمن ملابسات معقدة كان الاحتلال وامتداداته ومناخات الواقع الدولي طرفا فيها، ودُفع لاختيار خط المقاومة، فإن اختلال التوازن هذا هو الذي أدى إلى استشهاد ياسر عرفات وإغلاق باب النجاة المعهودة، وتكثيف العمل من بعده لتغيير بنية حركة فتح ومعادلة سقفها خارج إطاره الدقيق بين الوطني والممكن خارجياً.
لقد أصبحت حركة فتح بعد ياسر عرفات في منطقة التجاذب الخطر لأنها ستخسر البعد الوطني إذا اختارت تغليب الممكن إقليميا ودولياً، وستخسر المشروع الوطني إذا اختارت الاستهانة بالممكن خارجياً، واكتشاف الخط الدقيق هو معادلة عبقرية وإرادة وأوراق وموازين قوى.
لا بد من أقصى درجات الحكمة والمنهجية وأقصى درجات الصلابة والعزيمة في آن واحد هذه هي المعضلة الصعبة في إطار الحسابات، ولكنها المعادلة الممكنة في إطار الحكمة والصلابة.
كان ياسر عرفات بارعاً في ترك الخيوط، ولكنه كان أكثر براعة في توقيتات الإمساك بها، وهو الأمر الذي جعله يذهب بعيداً في التكتيك إلى درجة محيرة ومغامرة، كان مغامراً في التكتيك وغالباً ما يلوح وكأنه على وشك السقوط، ولا يخشى الاندفاع على حافة الهاوية، وقد نجح حتى استشهاده في النجاة إلى ان أطبقت عليه المعادلة تماماً كما أطبق عليه الحصار....
وفي خضم كل ذلك كانت تشده دائماً أهدافه القريبة أو البعيدة، الصغيرة أو الكبيرة ولم يكن يكترث بما يحيط انشداده باتجاه هذه الأهداف إلى درجة المنهجية المفرطة في احتواء السلبي والايجابي لدى ممارسته للإدارة أو منهجيته التنظيمية أو منهجيته في القيادة وربط خيوطها، واضطراره للتعامل مع امتدادات من يضطر ان يتحرك في مناطق ظلالهم.
هنا تكمن سلبيات ياسر عرفات، وتحديداً في منهجيته التنظيمية والمؤسساتية والإدارية والقيادة وأساليب الإمساك بزمامها.
وهنا تكمن الأخطاء التي عاصرته وعاشت معه وأحاطت به، ولم يكن يكترث بكل ذلك فقد كانت اولوياته وأهدافه تشدانه، وكان يرى تلك الأهداف الأمر الأكبر الذي يجب ان يحشد كل شيء باتجاهه.
وبالرغم من كل ذلك ليت ياسر عرفات بقي وبقيت أخطاؤه، لأن رمزية رحيله هي رمزية لكون الممكن أصبح ضيقاً.
ولدى التعرض لمنهجيته لا بد من التطرق إلى النقاط الايجابية التي ترجمها عملياً في قدرة الإمساك بالتوازن في فتح وفي الساحة الفلسطينية، والتوازن في الساحة العربية وخاصة في مواجهة سياسات المحاور والصراعات، والتوازن في معادلة العلاقات الدولية والنفاذ من هوامشها الضيقة والمحدودة في اغلب الأحيان، وكيف كان يصنع من انعدام الأوراق أوراقاً.
وكذلك لا بد من التطرق إلى ثوابته الناشئة من ايجابيات المنهجية والتي منها حرصه على الشرعيات والأطر الشرعية والتسلح بغطائها، وحرصه على م.ت.ف ومرجعيتها وكونها تجسيداً لشمولية الشعب الفلسطيني بكافة أجزائه وشرائحه في كل أماكن تواجدهم. وحرصه على وحدة وتكامل الشعب الفلسطيني واهتمامه بالساحة اللبنانية ووفائه للبنان، وحرصه على عدم الانقسام الوطني الفلسطيني والوقوع في دوامة الاقتتال.
لقد كان رفضه للوقوع في فخ الاقتتال الداخلي هو احد الثوابت الأساسية التي حافظ عليها والتي أدى الفشل في استدراجه إلى شركها باليأس منه والعمل للتخلص من وجوده.
ادرك أبو عمار ان الوقوع في شرك الاقتتال والحرب الأهلية سيعطي الفرصة للاحتلال لإذكاء نار الحرب الأهلية وإدامتها وعدم السماح بالخروج منها.
لذلك حتى عندما كان يضطر لاتخاذ بعض الإجراءات لاعتبارات متعلقة بالواقع الدولي والإقليمي فإن إجراءاته لم تكن تتخطى حدوداً حمراء رسمها بدقة قدرته على حفظ الخط الدقيق.
كان ياسر عرفات يخوض معاركه بالمواجهة، وبالرغم من مهارته في المراوغة والتكتيك والمناورة إلا أن طبيعته الجريئة والمقدامة كانت تجعله دائماً طرفاً في الميدان، وربما في واجهة الميدان.
قبل الانطلاقة تصدى بنفسه لقرار الانطلاقة وانصرف للميدان والعمل العسكري فورا وشارك في الدوريات والمهام القتالية الأولى وكان على رأس كل انواع التصدي، وبقي كذلك طيلة المسيرة وفي كل اماكنها وميادينها، وكأن القدر اراد بتلك النهاية التراجيدية ان يجعله وحده تحت ضوء المواجهة في مسرح الميدان الاول اثناء حصاره وصموده الفريد وفي استشهاده بخطى شديدة الوضوح امام العالم بأسره.
عاش رجلاً أسداً واستشهد رجلاً أسداً، وقد ملأ الدنيا وكانت محطات حياته ومواقفه دائماً احتفالية المشهد في إطار شد أنظار العالم، وحتى موته فقد كان موتاً خاصاً لرجل خاص. وكان علامة فارقة بين مرحلتين.
وقف أمام المجد وجهاً لوجه وقال اركع أيها المجد. ووقف أمام الموت وجهاً لوجه وقال اركع ايها الموت.
وبقيت فتح لتواجه إعصارها الدائم، وقدرها الدامي، فهي حركة الصهيل والخيول، تدافقت من خلالها الجياد الأجمل والأقوى إلى القدر التراجيدي.
هذه الحركة لم تعد حرة بمصيرها ولم تعد تملك نفسها فما زال على عاتقها ان تصل بسفينة الحرية والاستقلال إلى شواطئها والى القدس بإذن الله وما النصر إلا من عند الله.
نشرة" أفاق" العدد 17 – عدد خاص في الذكرى الاولى لاستشهاد ياسر عرفات خريف 2005