الرجل الرمز والقضية
بقلم: عبد الله عبيد حسن
لا يجد المرء صعوبة في أن يدرك كيف كانت مشاعر الفلسطينيين خاصة ومشاعر العرب عامة قد توحدت، عندما تأكد للجميع أن الزعيم والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قد ألمت به وعكة صحية حادة استدعت أن ينقل على عجل إلى فرنسا لتلقي العلاج، ومن ثم وفاته هناك رحمه الله. فأبوعمار قد أصبح رمزاً وتجسيداً حياً لأنبل وأشرف قضايا الأمة العربية -قضية فلسطين- التي تجسدت فيها بالنسبة للعرب والمسلمين المعاني الرفيعة لقيم الدفاع عن الأرض والعرض والتاريخ والمستقبل أيضاً. فهذه الأمة التي ظلت ولقرون ممتدة في التاريخ تكافح بشتى الوسائل لإثبات ذاتها وحقها المشروع في البقاء الإنساني حرة وسيدة إرادتها وأرضها، لم تجد في أية قضية من قضاياه المتعددة ما وجدت في قضية فلسطين من معاني إثبات الذات والوجود. لقد شهدت الأرض العربية موجات وموجات من الغزوات الاستعمارية، وكافحت شعوب الأمة الغزاة من كل جنس وصنف، وانتصرت مرات في نضالها من أجل التحرر الوطني والاستقلال والوحدة، وانهزمت مرات أيضاً. لكن قضية فلسطين ظلت هي المركز والقلب في كل مراحل التاريخ ومسيرة النضال من أجل التحرير، ذلك لأن الاستعمار الصهيوني الاستيطاني كان في حقيقته وطبيعته شكلاً ومضموناً مغايراً لكل أشكال ومضامين الموجات الاستعمارية التي سبقته على أرض العرب. فهو مثلاً لم يكن يهدف إلى نهب خيرات الأرض فحسب ولكنه كان يريد أيضاً اجتثاث الوجود العربي بما فيه من بشر وتاريخ ممتد عبر آلاف السنين.
ولقد أدركت شعوب هذه الأمة هذه الحقيقة في وقت مبكر، لذلك أصبحت قضية فلسطين بالنسبة لها هي قضية ذاتها ووجودها، يتساوى في ذلك الذين تتاخم حدودهم الجغرافية أرض فلسطين أو الذين تبعدهم عنها مسافات طويلة. هذه الحقيقة وما تداعى منها من حقائق أخرى خلال المسيرة الشاقة والطويلة من أجل استعادة فلسطين العربية، سيقول عنها التاريخ يوماً إنها هي القيمة الكبرى التي أعطت لكلمات مثل الكرامة العربية والحق العربي معانيها الفعلية، وهي التي ستبقى الدرة الفريدة التي صانتها من قبل -وستصونها من بعد- أجيال من أبناء وبنات العرب وبها سيفخرون.
لقد شهد النضال الفلسطيني الطويل أجيالاً من القادة الفلسطينيين، ويحفظ التاريخ لعشرات من قادة الكفاح الوطني الفلسطيني مكانتهم البارزة، لكن واحداً منهم سيبقى اسمه الأبرز من بينهم ذلك هو ياسر عرفات... لماذا؟
على مدى العقود الأربعة الأخيرة أصبح "أبوعمار" بكل نجاحاته وإخفاقاته، بكل ما في تاريخ مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية من انتصارات وهزائم، هو الرمز الذي يجسد القضية، وهو الرمز الذي يطل على العالم - حتى في لحظات المرض والضعف البشري- مذكراً إياه بأن هنالك قضية حية اسمها فلسطين، وأن هنالك شعباً حياً اسمه الفلسطينيون. وفي تقديري فإن "القائد التاريخي" هو ذلك الذي تظل بصيرته وبصره متجهين دائماً وأبداً إلى الهدف الأعظم والأنبل، هدف تحرير الأرض والبشر وإعادة الحق السليب، والذي يستطيع دائماً وأبداً أن يظل حريصاً على حشد قوى شعبه وأصدقائه من أجل هذا الهدف الأعظم والأنبل. لذلك فإن الذين "قرروا" أن يشطبوا اسم ياسر عرفات من السجل الفلسطيني سيكتشفون أنهم على خطأ كبير. فالرموز التاريخية لا يشطب حتى الموت الذي هو حق على كل كائن بشري... اسمها من التاريخ.
الاتحاد الاماراتية: 18/11/2004