فلسطين.. غياب عرفات، وشبح الغياب
بقلم: *طلال سلمان
عاد "السيد الرئيس" ياسر عرفات إنساناً، على غير توقع، فسادت الفوضى عارمة: بدءاً من تشخيص مرضه الذي ما زال لغزاً محيراً، وانتهاءً بتقدير ما سوف يكون، بعد غيابه، وهو نذير بسلسلة من الفواجع.
لم يتعوّد الناس، لا داخل فلسطين ولا خارجها، أن يروا في ياسر عرفات بشراً سوياً فيه كل وجوه الضعف الإنساني التي كان قد نجح في إخفائها على امتداد عقود من قيادته شعبه في قلب الاستحالة. وكأي إنسان اجتاحه المرض الذي لا شفاء منه فإنه يتوغل الآن في غيبوبة الرحيل مبتعداً عن أسطورة قاهر الموت (والقتل) التي اصطنعها لنفسه وصدقها الناس فيه، على امتداد نصف قرن، بقداسة فلسطين وقدرات شعبه الذي لا يعرف الاستسلام.
عاد ملك الملوك، كما تبدى ذات يوم، رئيس الرؤساء، أمير الأمراء، قائد كل القادة، الأمين العام لكل المنظمات وكل الجبهات وكل الهيئات، بشرياً من لحم ودم، قد يعطل المرض العضال دماغه وقد يشل جسده، لكن صورة "الجبار" فيه لا تتهاوى ولا تنكسر... ربما لأن تصديق موته ينذر بانفتاح أبواب الجحيم، دفعة واحدة، حيث لا خليفة ولا وريث، لا قيادة ولا مرجعية، لا مؤسسة كاملة الشرعية ومؤهلة لأن تكون البديل لمن لا بديل منه، وحيث أعداء فلسطين باتوا أقوى بما لا يقاس من أن يقبلوا مساومة، وشعبها أضعف من أن يحررها بسلاح "الانتفاضة" الذي طالما لجأ إليه.
تضاءل جسد العملاق الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على امتداد عقود، بعدما هدّه داء الحصار الوحشي الذي أدار "الإخوة العرب" وجوههم عنه، لبعض الوقت ثم "قبلوه" كقدر لا رادّ له، والذي تعامل معه بعض العالم بتعاطف ضعيف لا يفيد في فكه، بينما رحب به "صاحب الوعد" بدولتين ترسم حدودهما "رؤياه" وفق "خارطة طريق" باتت الآن نسياً منسياً.
كيف استطاع هذا "الختيار" أن يصمد في قلب الحصار ثلاث سنوات أو يزيد، وقد منع عنه سجّانه الإسرائيلي الهواء الطبيعي والشراب الطبيعي والأكل الطبيعي والحركة الطبيعية (هو الذي كان لا يهدأ والذي يقتله السكون!).. فكان كأنما ينتقم منه بمحاولة قتله ألف مرة في اليوم، ومع ذلك لا ينجح في استدراج الموت إليه، ولا يستطيع أن يمنعه وهو المحصور في زنزانة أن يسجل كل يوم صفحة جديدة في سجل المقاومة والتحدي وإدامة الصراع.
حتى مرضه حوّله إلى فرصة لإعادة طرح قضيته التي طمسها النسيان المتعمّد والتجاهل المقصود، على العالم... وهو عندما اتخذ قراره بـ"تدويل" علاجه فإنه كان يحاول فك الحصار عما تبقى من فلسطين، بأرضها التي تنهشها إسرائيل بجدار الفصل العنصري الذي يشق قلبها ويعزل كل مدينة عن الأخرى وكل قرية عن خراجها، وبالمستعمرات الجديدة أو المجددة بالمزيد من طوابير المستعمرين الذين اكتشفت منابت جديدة لهم.. في الهند، إضافة إلى استنفار القدامى في فرنسا بالذات وبعض "أوروبا القديمة".
ما أكثر الذين تعجلوا إعلان موت الرجل لكي يحرّروا أنفسهم من عبء القضية.
حتى "إمبراطور الكون" المزدهي بانتصاره على كل القيم الإنسانية النبيلة التي ناضلت وتناضل من أجلها الجماعات البشرية، بمن في ذلك "شعوب" الولايات المتحدة الأميركية، لم ينتظر بلاغاً رسمياً بالوفاة، بل إنه تسرّع في نعيه، ربما لكي يحرر نفسه من "رؤياه" ومن "خارطة الطريق" إلى الدولتين التي ابتلعت ذات السلاح تلك التي يفترض أن تحقق حلم السلام الذي بات في حكم المستحيل.
أما العرب فإن البحث عنهم متعب إلى حد إيلام الروح: لا هم نجدوا شعب فلسطين ففكوا عنه الحصار بالقتل اليومي والتهديم الجماعي للبيوت وأكواخ اللجوء، وتجريف الأراضي وإعدام الزيتون بثمره الناضح زيتاً مباركاً وحدائق الورد وشتول الخضار التي ترطب حلوق الصائمين في رمضان... ولا هم وفروا لعرفات العلاج في بعض مستشفياتهم مع ضمان العودة، حياً أو ميتاً، إلى الأرض المقدسة التي يحاولون إحالة "تحريرها" إلى الأجيال الجديدة كمزيج من الخرافة والاستحالة وحكايات حملة مفاتيح البيوت الدارسة.
لا مصر العظيمة قدرت على نجدة رفح، ولا الأردن رغب في التورط بفك الحصار عن الشعب المقسوم في "دولتين" بحدود من نار وبارود.
لا الجامعة العربية استطاعت أن تنظم اجتماعاً، ولا هي استطاعت أن تجبي القروش التي خصصتها القمم للشعب المهدد بخيار محدد: الإبادة أو التشريد!
لا أهل النفط حسموا من فائض الربح ما يكفل استمرار المستشفيات في استقبال الجرحى، ولا أهل الإيمان صمدوا لتهمة "الإرهاب" فواصلوا إمداد أسر الشهداء بما يقيم الأود.
الكل في شغل شاغل عن فلسطين بهموم حفظ الرأس، ودرس العراق قد علّم من وصل إلى السلطة بشعار الثورة أن الثورة قد باتت من أحلام الماضي، وأن للسلطة مصدر أمان وحيداً في واشنطن إذا ما نال أصحابها شهادة حسن سلوك من إسرائيل أرئيل شارون.
هي المرة الأولى (والأخيرة) التي يظهر فيها ياسر عرفات بضعفه الإنساني الذي كان يجتهد في إخفائه خلف علامة النصر التي احترف رفعها حتى باتت جزءاً من قيافته.
لكنها أيضاً المرة الأولى التي يظهر فيها حجم الخطر الذي يتهدد فلسطين، أرضاً وشعباً وحلماً بدولة، مجسماً، مخيفاً، قريباً في مدى النظر، تكاد تلمسه اليد مباشرة.إن هذا الشعب العظيم الذي قاوم التغييب على امتداد زمن الصمود الطويل بين بداية القرن الماضي واليوم، يتبدى الآن مضرجاً بدمائه، معزولاً عن أرضه، "منبوذاً" من أهله الذين يدعمونه بالدموع وإظهار التفجع والتأسي والاعتذار عن عجزهم حيناً، أو توجيه اللوم إليه أحياناً لأنه يختار الوقت الخاطئ للانتفاض والمقاومة، ويطالبهم بما هو فوق طاقتهم لدعم صموده.
لكن ليس مصادفة قدرية أن يتوغل ياسر عرفات داخل غيبوبته بينما تشحب صورة فلسطين، ويكاد يغيّبها اليأس من الغد الذي يتبدّى "إسرائيلي" الملامح مطعماً بنكهة أميركية فاقعة.
إن العرب يواجهون مصاعب ومخاطر أشد وأدهى بما لا يقاس من كل ما عرفوه في تاريخهم الحديث: إن وجودهم مهدد بشهادة ما جرى ويجري للعراق الذي يكاد الاحتلال الأميركي لا يجد وسيلة لإدامة ظله فوق أرض الرافدين غير إغراق شعبها في حرب أهلية لا تبقي عرباً ولا كرداً ولا تركماناً، لا سنة ولا شيعة ولا مسيحيين ولا يزيديين ولا صابئة إلخ...
وليس شحوب فلسطين إلا إنذاراً بالغياب لجيل أو جيلين أو ثلاثة، فمهما كانت بسالة شعبها فإنه لن يستطيع أن يواصل وحده صموده الأسطوري، ولا هو سيقدر على تحمّل تبعات المقاومة وحيداً، تخلى عنه أهله الأقربون قبل الأصدقاء في البعيد.
إن غيبوبة ياسر عرفات، الإنسان الذي أمّرته فلسطين على كل العرب ذات يوم، هي جرس إنذار يدوي في كل الأفق العربي ينبّه هذه الشعوب التي تكاد تكون بلا قيادات على مستوى المسؤولية إلى أن هذا الخطر الداهم لن يتوقف عند حدود فلسطين.
إن غياب فلسطين، مع احتلال العراق مباشرة، ومعظم الأقطار العربية بالقواعد العسكرية الثابتة أو بقواعد المخابرات الأميركية، هو إنذار بأن الاستسلام لن يكفي إسرائيل ولا إدارة بوش المزدهي بانتصاره، بل إن المطلوب يتعدى ذلك كله إلى إعادة صياغة هذه المنطقة جميعاً وفق مصالح المستعمرين الجدد الذين ليس في حسابهم أن يرحلوا قريباً، والذين ثبت أن لهم رأيهم في عدد "الدول" التي تتسع لها هذه الأرض التي كانت تنبت المجاهدين والمقاومين ذات يوم، والتي يتقوقع حكامها الآن في أصداف الخوف من توجيه الاتهام القاتل إليهم بحماية الإرهاب أو التستر عليه.
إن فلسطين هي المهددة بالغياب، وليس ياسر عرفات الذي كان لا بد من غيابه، كإنسان، ذات يوم.
وتلك هي المسألة.
إن العرب جميعاً سيتأثرون بغياب ياسر عرفات، الملكيات في بلادهم والجمهوريات، الإمارات والجماهيرية الفريدة في بابها.
لن يكون وضع أية دولة كما كان في حضور فلسطين القضية ونضالات شعبها وصموده تحت الحصار، مع "قائده" الذي استمر قائده (رسمياً) على امتداد خمس وثلاثين سنة أو يزيد.
وبالتأكيد فإن لبنان سيتأثر بهذا الفصل الجديد من المأساة القومية المفتوحة في فلسطين، والتي ستؤثر احتمالات تطورها بالسلب على الجميع، لا سيما أن إسرائيل ستحاول استثمار الغياب، والبلبلة التي ستدهم الفلسطينيين بعده، لتسريع "تصفيتها" فلسطين القضية، الأرض في الضفة، ومحاصرة غزة بحيث تكون "جحيم الاقتتال الأهلي الفلسطيني".
والتنبّه ضروري، والحيطة واجبة، وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن على أرضنا (لبنان) حوالي ثلاثمئة ألف من الإخوة الفلسطينيين الذين سيزيد غياب عرفات من يأسهم و...
ولا بد من توكيد التضامن والتعاطف مع هؤلاء الإخوة حرصاً على لبنان وعليهم وعلى قضيتهم التي تبدو اليوم، وأكثر من أي وقت، مهددة بالضياع.
*("السفير" اللبنانية 11/11/2004)