أبو عمار .. “عنقاء “ طالما نهضت من رمادها
بقلم : *شوقي بزيع
نادرون هم الأشخاص الذين نحتاج إلى وجودهم حاجتنا الى وجودنا بالذات، أعني أولئك الذين لشدة التصاقهم بمراحل أعمارنا المختلفة يتحولون الى جزء من الثوابت التي نقيس في ضوئها مدى ما أصبناه من تعثر وإقدام، من نكوص وطموح ومن هزائم وانتصارات. كما أنهم بتصدرهم للتاريخ يظرون وكأنهم يعفوننا من تحمل نصيبنا من تبعاته وأوزاره بحيث لا نجد مع وجودهم ما نفعله سوى امتداح الظفر وهجاء الخسارة، نستحسن هذا الموقف ونستنكر ذاك. نهلل حين يصيبون أو يحققون إنجازاً أو شبه إنجاز ونكيل الشتائم حين نكتشف عقم ما اتخذوه من مواقف باهظة الأثمان. لكن وجودهم مع ذلك ضروري لأنه يشعرنا بالأمان الذي يشعر به الطفل في حضور أبويه. فثمة من يتصدر الحياة بالنيابة عنا، وثمة من يعفينا من أعباء الحرية ويدفعنا الى الخطوط الخلفية للاختيار.
كان يمكن لهذا الواقع أن يتحول الى يوتوبيا حقيقية لو كانوا سيخلدون الى الأبد، كما كانوا يظنون على الأرجح. إذ كانوا سيوفرون علينا فرصة أن نكبر لنواجه بأنفسنا الأسئلة الصعبة التي ظلت معلقة أو مؤجلة الى زمن طويل. حتى إذا أدركهم الغياب واكتشفنا فجأة أنهم حقيقيون وأرضيون وليسوا مجرد أساطير، على حد طلال سلمان، داهمنا شعور مباغت باليتم ونزل علينا غيابهم نزول الصاعقة. كذلك كان الأمر مع جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط، على تفاوت المواقع والأدوار، وكذلك هو الحال اليوم مع أبو عمار. كأن المسافة الزمنية المديدة التي تفصل بين غياب الأول وغياب الأخير لم تكن كافية ليكبر "الابن المصبر" أو يبلغ الرشد لنجد أنفسنا ساهمين من جديد تحت صورة الأب الرمزي المجللة بالسواد. لم يكن من قبيل الصدفة أن يؤثر الكثيرون كنية ياسر عرفات على اسمه الأصلي. كأن رفع الكنية الى مرتبة الاسم يحوّل أبو عمار الى أب حقيقي، أو رمزي، لكل الذين يرغبون في البقاء ضمن خانة الطفولة وتحميل كاهل الأب ما لا يقوى على حمله شعب كامل من الأبناء.
كان لا بد للأسطورة من أن تبنى لبنة لبنة منذ منتصف الستينيات لكي تصل الى ذروتها عبر أربعين عاما من القفز فوق حبال المراحل وأشراكها وكمائنها الصعبة. وكانت فكرة الرصاصة الأولى هي المعادل المجازي للإصبع الأول وللرجل الأول الذي يستطيع وحده أن يكسو الفكرة باللحم والدم ويحولها الى حقيقة ماثلة. وهي المعادل النضالي في الوقت ذاته لفكرة القصيدة الأولى في مجال الحداثة الشعرية والتي تحتاج بدورها الى زعامة مماثلة تنازع على سدتها كل من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. وهي المعادل اللاهوتي لصورة الخلق التي يحتاج تأسيسها اللانهائي الى أكثر من آدم وحواء.
ومع ذلك فقد تلقف ياسر عرفات بصورة نادرة ومذهلة فكرة الزعيم والقائد الرمز التي لم يتم إنجازها دفعة واحدة عن طريق الجيوش وأجهزة المخابرات وإيديولوجيا الحزب الواحد كما هو حال الكثير من الزعامات العربية، بل كان عليه أن يبدأ من الصفر وأن يتقدم بتؤدة، حيث لا أرض ولا جيوش، على طريق محفوفة بالمهالك. وخلال سنوات قليلة تخللتها هزيمة حزيران القاصمة استطاع أن يجعل من حركة فتح البديل المرن والفضفاض عن الإيديولوجيا الحزبية النظامية وأن يبحث في الأردن ثم في لبنان وتونس عن أرض مؤقتة تشكل، ولو فوق جبل من الأخطاء والعثرات، جسر العبور الى فلسطين.
ليس ياسر عرفات الشخص الأكثر ثقافة بين القادة الفلسطينيين. ولا هو أكثرهم قدرة على التنظير، بل ثمة من يفوقه بأشواط في هذا المجال. وهو بالقطع ليس أكثرهم طولا وعرضا ووسامة. ولكنه يتمتع مع ذلك بمزايا وخصال ندر اجتماعها في رجل آخر وعلى رأسها المرونة والصبر والصلابة واقتناص اللحظة والدهاء الذي مكّنه من تجاوز العوائق والألغام من كل نوع. وان المرء ليحار فعلا من كون ذلك الجسد العادي الأميل الى القصر قادراً على ملامسة الموت في غير مرحلة من المراحل ثم النهوض ثانية كما لو أنه عنقاء تنهض من رمادها. فلقد قضى على طريق العودة الى فلسطين جيل "الأبوات" الذين رافقوه وعملوا الى جانبه وبقي شبه وحيد في مسيرته الطويلة كما لو أن القضية لا تحتاج الى أكثر من أب أو أكثر من مثال. لقد خرج بأعجوبة من الأردن. وبأعجوبة مماثلة خرج من بيروت حيث كانت تطارده الطائرات والقنابل الفراغية من مبنى الى مبنى، وبأعجوبة خرج من طرابلس كذلك. ولم يحدث لشخص لسواه أن سقطت طائرته فوق صحراء مقفرة لا زرع فيها ولا ضرع واستطاع البقاء على قيد الحياة. كما لم يحدث لشخص سواه أن احتمل على امتداد سنوات ثلاث كل هذا القدر من الألم والمعاناة والعزلة داخل ما تبقى من مقره المهدم في رام الله.
لم ألتق بأبو عمار سوى مرتين اثنتين. الأولى قبل حصار بيروت بعام واحد وتحديداً أثناء استقباله للشعراء العرب في مقره في الفاكهاني خلال "ملتقى الشقيف الشعري". والثانية خلال الحصار نفسه حين قام فجأة بزيارة إذاعة صوت لبنان العربي التي كنت أتناوب فيها مع الزميل الصديق رفيق نصر الله على بث نصوص سياسية ووجدانية تحرّض على الصمود في وجه الدبابات المعادية المرابطة على مداخل المدينة. لم يكن شيء يومها أدعى الى الهلع من تلك الزيارة المحفوفة بالمخاطر والتي دفعت الصواريخ الإسرائيلية للسقوط على بُعد أمتار من مبنى الإذاعة. وإذا كان الاقتراب من ياسر عرفات ولو لدقائق قليلة مكلفاً الى هذا الحد فكيف هو الأمر مع عرفات نفسه الذي كان عليه أن ينفق عمراً بكامله في مجاورة الموت ومراوغته وتضليله.
إن المرء ليعجب حقاً كيف يمكن لرجل واحد أن يجمع في شخصه كل تلك المفارقات التي حملها ياسر عرفات. كيف لرجل واحد أن يوفق بين الميكيافيللية الذرائعية من جهة وبين التبتل الرسولي من جهة أخرى، بين الوقوف حيناً على مشارف التفريط وبين حماية الفكرة بالجسد المنهك والمحاصر حيناً آخر، بين اتفاقية أوسلو الكارثية التي عقدها من وراء ظهر المفاوض الفلسطيني وبين كأس السم التي تجرعها بشجاعة لكي لا يذيّل بتوقيعه غياب فلسطين. وفي حالتي الخطأ والصواب لم يكن ياسر عرفات سوى هو عوليس الفلسطيني الذي لم يضيع الطريق الى إيتاكا الجديدة. ولم نكن نحن لنعرف من دونه كيف نقتفي آثار أعمارنا الضائعة. فمنذ أربعين عاماً ونحن نتعايش مع فكرة وجوده كما تتعايش الشجرة مع ظلالها. ومنذ أربعين عاماً وهو يعمل على تكييف صورته مع صورة فلسطين نفسها. فالكوفية التي تغطي الجزء الأكبر من رأسه ووجهه تضيق وتتروّس في الأعلى لتبدو شبيهة بإصبع الجليل، فيما يتسع الجسد في الوسط باتساع الخارطة نفسها وتأخذ القدمان في الأسفل شكل النّقب. لم يكن اللباس العسكري الدائم تبعاً لذلك سوى التعبير الأكثر سطوعاً عن المماهاة بين الهدف وبين الطريق إليه. أما العينان النافذتان كعيني الصقر فقد كانتا، على صغرهما، كافيتين لإيصال الحلم الفلسطيني إلى منتهاه.
*("الايام" الفلسطينية 21/12/2004)