لقد صنع المستحيل
بقلم: *سمير قصير
منذ اللحظة الاولى لتدهور صحة ياسر عرفات، كان هناك من أصر على الحكم بالاعدام عليه. وحتى اللحظة الاخيرة من مقاومته المرض، ظل هناك من يؤمن ان ياسر عرفات سوف ينهض ويقهر هذه المحنة الجديدة رافعاً يده بإشارة النصر.
لم يتحقق الرجاء هذه المرة، وكان لمن استعجلوا موت ابو عمار ما ارادوا، وان نجح الختيار العليل في ان يخيّب آمال المتحرقين من صموده اكثر من مرة خلال الاسبوعين الاخيرين. وكأن في معاندة ياسر عرفات الموت صدى لهذه المعاندة المديدة التي واجه بها المؤامرات نحو اربعة عقود! وكأن حقبته الباريسية الاخيرة صورة مصغّرة لحياة استثنائية ترجحت دوماً بين شبح الموت وارادة الحياة.
في هذا الترجح كان سحر ياسر عرفات، وربما سر اختزاله المسيرة الفلسطينية: شجاعة استثنائية في مواجهة الموت، وقدرة هائلة على اقامة التسويات لا من اجل ان تهون الحياة، بل فقط حتى تصبح ممكنة. لم يخش عرفات الموت يوماً. من كثرة ما واجهه، مكرهاً احياناً، ولكن مختاراً في الكثير من الاحيان الاخرى، بدا كمن طوّعه... منذ ما قبل حرب 1967، منذ مرابطته على سفوح جبل الشيخ التي كان يحب ان يتكلم عليها... او منذ المحاولة الانقلابية الأولى في شقة دمشقية عام 1966 والتي لم يكن يتكلم عليها، وان حضرت في ذهنه طيلة صراعه المرير اللاحق مع حافظ الاسد.
في ايام الفدائيين، كان عرفات فدائياً، حتى قيل عنه انه يختار ان يحشر نفسه في حال الخطر. اختار مع رفاقه من جيل المؤسسين في فتح ان يبقى في الكرامة امام الهجوم الاسرائيلي، بخلاف كل قواعد حرب العصابات، فجعل من معركة الكرامة لحظة التأسيس الثانية. قبلها وبعدها، اختار ان يؤسس بنفسه خلايا المقاومة تحت الاحتلال، فقصد الضفّة الغربية متخفياً واقام فيها سراً. ولم يتوقف عن الخيارات الصعبة حتى عندما لمع نجمه وكبر حجمه.
يقال ان ياسر عرفات واجه ثلاثة حصارات كادت ان تودي به. ما لا يقال هو انه اختار الحصار في الحالات الثلاث. فحين اجتاح الجيش الاسرائيلي لبنان في حزيران 1982، كان عرفات في جولة خارجية، لكنه عاد الى بيروت ليواجه الحصار الاسرائيلي. وفي العام التالي، عاد الى طرابلس وهو يدرك انه سيواجه حصاراً جديداً، سورياًً هذه المرة، فأقبل عليه وحسم مسألة الشرعية الفتحاوية. حتى حصاره الاخير اختاره هو، اذ قرر الاحجام عن السفر خارج فلسطين لحظة ادرك ان ارييل شارون يريد ان ينجز في رام الله ما لم يوفّق به في بيروت.
رجل بهذه الشجاعة، كيف يكون رجل تسوية؟ تلك كانت معادلته الصعبة.
ادرك باكراً ضرورة التسوية لانه رأى فيها شرطاً لبقاء القضية. وقبل ان يقيم التسويات مع العدو، اقامها مع الاشقاء، فجعل من المناورة سلاحه الامضى. من اجل القضية، كان يستطيع ان يقبّل من شتمه البارحة، وما اكثر الشتائم التي نالها، وما اكثر القبل التي وزّعها. قيل انه استسهل الكذب. هو نفسه اقر بذلك قائلاً انه اذا كان مستعداً للقتل من اجل القضية، فكيف لا يكذب من اجلها، وخصوصاً حين يصبح الكذب عنده وسيلة لكشف النيات المبيتة، وما اكثرها، عند الاشقاء العرب.
رجل قبِل الشهادة كاحتماله اليومي، ورجل اضحت المراوغة طبيعته الثانية. كان عرفات الاثنين معاً، فكان المزيج بينهما كفيلاً بدحض فكرة الطهرانية التي كثيراً ما كانت تقنّع مدعي الصمود اللفظي اعداءه اللدودين. انه المزيج الذي سمح له بان يجتاز مرحلتين متناقضتين، مرحلة الثورة العالمية التي شكّل احد رموزها بعد هو شي منه وكاسترو، ومرحلة ما بعد الحرب الباردة التي رأته ينال اعتراف الخصوم.
في التاريخ العالمي الحديث، عرفات وحده مع نلسون مانديلا استطاع ان يجتاز هاتين المرحلتين، مع الفرق انه لم يحظ بالاحترام الذي حظي به مانديلا... الا من مانديلا نفسه، وفي ذلك دلالة ربما على ان العدو الذي يواجهه الفلسطينيون اعتى من ذاك الذي قهره شعب جنوب افريقيا.
لم يصل الفلسطينيون الى حد قهر عدوهم، هذا محسوم، ولم يتوصل ياسر عرفات الى بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وان رسم معالمها. لكنه فعل ما هو اهم: لقد صنع المستحيل.
فحين نجح ياسر عرفات في العودة، ومعه نحو ثلاث مئة الف من فلسطينيي الشتات، قبل عشرة اعوام، اكد ان مسار قضية فلسطين قد انعكس بخلاف كل التوقعات الواقعية . واذ يرجع مجدداً الى فلسطين لتكون مثواه الاخير، فهو يزرع في ارضها معلماً يعلنها حية عربية عائدة ابداً.
*("النهار" اللبنانية 21/12/2004)