عرفات.. ظل حتى النهاية يحمي المشروع الأول
بقلم: *ساطع نور الدين
مثلما كانت ولادته السياسية، أشبه بعملية اقتحام عسيرة للكثير من الوقائع العربية والدولية، يبدو أن مماته هو اشبه بعملية انحدار تدريجية متعثرة، نحو القدر المحتوم أو الخاتمة الحزينة.
كأن ياسر عرفات ما زال يفاوض ويساوم على كل خطوة يخطوها للانتقال من الموت السريري المعلن الى الوفاة الحاسمة، يرفض أن يستسلم بسهولة، ويحاول قدر الامكان ان يكون رحيله مدويا، يليق بموقعه ومكانته كواحد من كبار القرن العشرين، الذين ساهموا في صنع تاريخ شعب وأمة، وشاركوا في كتابة تاريخ العالم.
في اللحظات الاخيرة من عمر عرفات، يستعاد شريط تسجيلي طويل، لسلسلة لا متناهية من الاختراقات السياسية، التي بدأت بالقرار الاول بحمل السلاح الفردي في مواجهة عدو هزم جيوش العرب جميعا وما زال، وانتهت بعدم التجرد نهائيا من هذا السلاح قبل أن يتحقق جزء بسيط من المشروع الوطني الفلسطيني، الذي ولد كحلم ولم يغادر هذه الصفة حتى الآن.
كانت تلك الاختراقات كلها أشبه بمغامرات خرقاء باهظة الكلفة:
الاختراق الاول للوعي الفلسطيني الذي كاد يتآلف مع فكرة ضياع الوطن وشتات الشعب. فجاءت الرصاصة الاولى قبل اربعين عاما لتعلن الحق بالوجود، ولتبني عليه برنامجا سياسيا لم يعد بإمكان اي فلسطيني ان يتخلى عنه، من دون ان يتهم بالخيانة الوطنية العظمى.
الاختراق الثاني للوعي العربي الذي لم يقاتل يوما من اجل فلسطين بالتحديد، بل من اجل استرداد اراض او الاراضي العربية التي احتلت خلال الحروب الاربع الكبرى مع اسرائيل، وكان في الماضي يعتبر ان الفلسطيني هو عنصر شغب أو إلهاء للعدو اكثر مما هو جزء من جدول اعمال.. ثم صار ينظر الى ذلك اللاجئ بصفته عبئا او تهديدا للامن والاستقرار الداخلي، او ربما للتوازن الديموغرافي كما هي الحال في لبنان والاردن.
الاختراق الثالث للوعي الدولي الذي لم يكتشف الا في مرحلة متأخرة جدا وجود الشعب الفلسطيني، عندما بات مشروعه السياسي يصطدم بمشاريع سياسية عربية أنتجتها إسرائيل أو ساهمت في بقائها، أو عندما بات عدد الجثث الفلسطينية اكبر من أن يعد ويحصى، وأكثر من أن يحتملها الضمير العالمي، الذي لم يكن يخفي قلقه على "طهارة السلاح الاسرائيلي وأخلاقيته".
حقق عرفات نجاحات استثنائية، ومني بإخفاقات عديدة. لكنه ظل حتى الاسبوع الاخير لدخوله في الغيبوبة يحاول ان يحمي المشروع الاول من خطر الاندثار. كان واثقا من ان الفلسطينيين صاروا شعبا، وأن ارضهم باتت معروفة وإن لم تكن بلا حدود نهائية، وأن قيام دولتهم اصبح حتميا اكثر من اي وقت مضى في التاريخ.
لكن عرفات كان قلقا من امر ما، لعله كان يتوقع ان يأتي احد.. ليسأله عن أمنيته الاخيرة، قبل ان يجيز السير في الجنازة التي ليس لها اتجاه حتى الآن.
*("السفير" اللبنانية 10/11/2004)