في وداع الفينيق الفلسطيني
بقلم : خالد الحروب
ليس في صمتهم وتلعثمهم أي جديد سادة تلك العواصم إذ طالت بك أيام الوداع الأخير في برد باريس. كان يكفيك من دفء شموع الفرنسيين (السادة) يتلصصون على شاشات تتسع عيونهم حين يتابعون شيراك، القومي العربي الأول، يؤبِّن الفينيق فيك للمرة الأخيرة، كم انبعث هذا الفينيق من موتة اثر موتة، وكم أشرعت له العواصم ذاتها قبورها، كثيرون منا خالفوه وانتقدوه واتهموه، هذي السطور التي انتقدته كثيراً وشديداً يوم كان حياً، وما مدحته سطراً، تقف اليوم بإجلال عند عتبة القبر المؤقت تؤدي له تحية الفدائيين. قالوا عنه منافق العواصم، رد عليهم العواصم منافقة، حاصره شارون وبوش فأطاعت العواصم. ظلت خائفة مترددة من بوش ومنه حتى لحظة النزاع الأخير، تسمرت المؤخرات الثقيلة على الكراسي الأثيرة فما جرأت واحدة منها امتطاء طائرة مرفهة وطرق باب المستشفى لتقول وداعاً أبا عمار.
ليس في غياب (السلام عليكم) العربي وتسيد (الأرفوار) الفرنسي أي جديد. غابت سلاماتهم عنك سنتان ونصف وأكثر، من سنوات تقاعد الأمل وسلم الحزن مآقي العيون، ظلوا مصرين على إماتة براءة التضامن مع موت عزيز حتى آخر حروف من (الأرفوار) فقدوا مروءات (الجاهلية)، صارت هذه الأخيرة مدرسة أخلاق إن ذكر غدرهم، لو قال ابن أم كلثوم لبصق في كل الوجوه وجهاً وجهاً، وازدراء ازدراءً، ما كان منهم من ملك عشر معشار رجولة فعاد المريض في مرضه، إن لم يكن وداً وصدقاً فليكن نفاقاً أو تخادعاً، تجمَّد عرب وفرنسيون أمام بوابة المستشفى برداً وليلاً، يبتهلون. يحاصرهم برد وسياج وكاميرات، صور الختيار مرصوفة على الرصيف، لكنها محنية تكاد تخفي ابتسامته فيها، هل كان عاتباً وغاضباً؟ ظلوا يبتهلون ليالي، يريدون رد فجيعة الموت، وتحدي موت أقسى من الصلوات، معروفة نهايته، هيهات ما أطال في الأعمار طول السهر ولو كان صلاة شموع، كان كل ما كان صوت فرنسي وحيد يعزي الفلسطينيين ويقول لهم فرنسا معكم وستواصل مساندتكم، لا يهم حجم الحقيقة في هذا، الأهم منه نصاعة التضامن، الأهم هزيمة البرد في تلك الليالي المعدودة، انحسار الحدود عن الحدود وانكشاف صناعة فلسطين في عاصمة كبرى، عيون مئات الملايين المسمَّرة على شاشات التلفزيون لم تر عمراً ولا زيداً، رأت جاكاً وشيراكاً يعزيها، كان عمرو وزيد يتأنقون لحضور الجنازة بدبلوماسية الموت الرسمي في قاعة ترانزيت أعدت على عجل في مطار عسكري ما ينتظر جسداً يخيفهم في وجل.
فينيقك الفلسطيني أحد أساطيرنا ظل يعيش متقافزاً بين حواف الموت والانبعاث، حلم يكاد يقترب من المستحيل تزنّر بالأمل وحده في مواجهة قدر باطش لا يرحم، وعندما يموت، بانتصاراته وهزائمه، بانجازاته وخطاياه يفقد الفلسطينيون جناحهم الطائر، وجناحهم الكسير، فيه كانوا رأوا الأمل، رأوا فلسطين الأولى البريئة، ومنه عضبوا، وعليه عتبوا، لكنهم جميعاً كانوا يعلمون إن تلك الكوفية القدسية التكور هي الخصم والحكم، إنها راية فلسطين ترصِّع صدرك.
سيد بلا عاصمة، لكنك وحدك وسط السادة المزيفين كنت رئيساً بالانتخاب، عواصمهم تفيض سادة يرتعدون من وقع تلك الكلمة، يختبئون وراء أسوار القصور، يقتلهم التلصص على شاشات التلفزة بين الحين والحين، متابعين ما حل بآخر سيد في آخر عاصمة، يرتقبون دورهم.
تثاقلت خطواتهم إلى درجة الكساح، فما أطل من شرفة قصر أي واحد منهم ليلقي نظرة التآزر الأخير على الفينيق الذي تمهد جناحاه للمرة الأخيرة هذه المرة، أليس من حقه عليهم أن يسمع (سلاماً عليك) و (وداعاً لَك) كل إجلالات أبناء الشوارع في فلسطين ومدن العرب، بادلوك ويبادلونك التحية بأحسن منها.
تتوشحين كوفية الفينيق الرقطاء، فيصبح العالم في أقصى لحظات ضعف الفينيق المغادر، فلسطيني اللون والطعم والانتماء، تنحنين يا عاصمة الحب إجلالاً لموت عابر في (سرير مرض عابر) ترين في المريض المنهك جروحات مشروع تحرير متعب.
مقابلك تعرت عواصم المتنبي ولم تتوشح بشيء، توشحت بكشف عوراتها، لأسبوع وأكثر صارت (الأرفوار) نشيداً قومياً عربياً، فيما خجلت حروف العربية من أصحابها، خلف شاشات التلفزة اختنقت كلمات التحايا في حلوق القاعدين هناك، المتوجسين من شيء لا يعرفونه، كانوا متشنجين في بدلاتهم الأنيقة، محزّمين بربطات عنقهم السوداء اللامعة يجهزون أنفسهم لحضور الجنازة، حضور الجنازة مسموح إذ يتخبأ الجميع وراء الجميع فتبهت (خطيئة) التضامن الفردية في وسط الجموع.
بالتحية نفسها يرد عليك يا باريس الناس العاديين، في فوضى جنازة رام الله وتراكم الأجساد الصائمة. من كل مخيم تحدى صامدوه منع الجلادين وجاءوا لإلقاء الدمعة الأخيرة، كانت أعلام فرنسية ترفرف، تشكر بالفوضى العفوية التي لا يتفلسف بها وفيها الناس العاديون أحر عزاء تلقته فلسطين، يتحاذى علم باريس مع علم فلسطين، يرفرفان فوق القبر وقبل الدفن، وذات العلم يرفرف في بقاع لبنان ومخيماته في ميرات الوداع الأخير ترميزاً وتقديراً.
وداعاً أيها الفينيق، في تواريخ هؤلاء المزروعين أو المنفيين شخصاً شخصاً تكاد تكون ثمة صفحة تنتهي أو تبتدأ بتوقيعك، يوماً ما، تصايحت عليك في مقابلة صحافية، عنفتني، غضبت، تدخل من تدخل، قالوا شاب طائش يا أبو عمار تحمله، هدأت أعصابك، قلت لك: رويداً يا أبو عمار، فقد حملتني على ذراعك الأيسر خطيباً في مخيم ما يوم كنت طفلاً صغيراً، وبمقدورك أن تتحملني الآن شاباً متحمساً! يومها انطفأ غضبك بلمح البصر، ابتسمت ابتسامتك الطفولية تلك حملتها أنا وظلت معي.. وغادرتك وكتبت فيك هجاء السياسة كلها!
تغادر تاركاً ندبة فينا وفي تاريخ ما زال ندياً بالدم لم تنغلق صفحات تعبه بعد، أربعون عاماً من التيه والنبي موسى يبحث عن النهاية، أربعون عاماً من التيه والدمع والدم والتشرد أبت أن تلفظ نفسها الأخير إلا خارج أرض العروبة، أثمة أقسى من توقيع إدانة بالنفس الأخير من هذا. وفي سرير الختام؟ كما ضاقت تلك العروبة بأجنحتك حياً ضاقت بكفنك ميتاً، كأنه كفن بأجنحة تطير فخافوا أن يسيِّروا لك جنازة وسط الشوارع، فتحلق في رقابهم قدر إدانة لا يدفن بدفن الكفن، لم يريدوا لك احتضان الشوارع وكفناً تتقاذفه السواعد وسط الناس العاديين الذين وحدهم عرفوا طعم جرحك، ووحدهم كانوا مستعدين لصلاة (سلام عليك) بالعربية الفصحى، كانوا يريدون الهروب من الكفن المكهربا.
"من كتاب :ياسر عرفات : وتبقى فلسطين "
صامد الاقتصادي العدد 139-140
2005