ليتني مشيت تحت صورته .. ليتني لم انتظر موعد جنازته
بقلم: *حسين أيوب
تحولت سماء الجامعة العربية إلى سماء ملونة. أسهم نارية لم ألمحها من قبل ورصاص "خطاط" يرسم خطوطا مجنونة في السماء. أناشيد "أبو عرب" على وقع طبول لا تهدأ. لم يكن في منزلنا القريب من أستأذنه المغادرة في تلك العشية. شو القصة؟ "عيد الثورة" (الثاء مضمومة). أجابني فتى بلكنة فلسطينية. ومن يخطب في الداخل؟ "إنه الختيار"! الختيار.. من هو الختيار؟ "أبو عمار". هززت رأسي وتقدمت إلى بوابة قاعة جمال عبد الناصر في الجامعة العربية. سمحت لي قامتي بالتسلل سريعا إلى الصالة العلوية. هناك ضعت بين المحتشدين وبدوت غريبا للحظة. هم يحملون الاعلام ويرتدون قمصانا مطرزة بالشعارات والصور. لكنتهم مختلفة. وأنا لا احمل علما ولا ارتدي زيا مميزا.. تقدمت إلى حيث اصبح المسرح قبالتي تماما.
هذا هو "ابو عمار" الذي طالما حدثنا عنه والدي قبل استشهاده. كنا نعرف ان ابي أخذ بندقيته من جماعة "ابو عمار"، وأن هذه "الجماعة" تختزل بين اهل القرية بـ"الفدائيي". نعرفهم من خلال قاعدتهم العسكرية في "فريز" (في أطراف قريتنا). نعرف أنهم اصدقاء الليل والفجر وحسب وأنهم زودوا "الحرس الشعبي" بـ"لاندات روسية" ما زلت مغرما لليوم برائحة وقودها يعبر أزقة القرية الضيقة.
هذا هو "أبو عمار". الكوفية السوداء والبيضاء. النظارات السوداء. الثوب الكاكي. الضحكة الذكية. يومها تأملته كثيرا. كأنني في صالة للسينما او للمسرح. اراقب الممثل يحرك يديه صعودا ونزولا. يتفاعل الجمهور معه بالهتافات والتصفيق. الفرقة الموسيقية احيانا تتدخل بمقطوعة سريعة. يتابع الممثل حركاته. يتحدى اميركا ريغان وإسرائيل بيغن ومصر السادات "وأنا بقولوكم يا خوان، يجيبوا اف 16 و17 و18 و19 و20، نحنا يا شعب ما يهزك ريح" وتعصف الصالة مجددا بالهتافات. يهدد بالعمليات ويرفع غصن الزيتون. وكلما اشتعلت القاعة بادر الى رفع اشارة النصر بيده اليمنى او بيديه الاثنتين. يهدأ عرفات ويتحدث بجدية عن المؤتمر الدولي وكامب ديفيد، فيصبح الجمهور كله في حالة إنصات. ترمي إبرة في القاعة فتسمع صداها. الآن جاء موعد الاشتعال، فيشتعل الجمهور. ساحر هذا الرجل. كاريزما الساحر يتقنها. يهوى الاعلام. يهوى المنصة والميكروفون. يعشقه الناس. عشقته سريعا معهم أنا الآتي حديثا الى بيروت من أقاصي الجنوب.
في تلك العشية تعرفت على عرفات. في تلك العشية أدمنته. صرت تدريجيا من رواد "الجامعة العربية" يوميا. صار الحراس يعرفون وجهي. تآمرت مع احدهم يوم مشى من الجامعة العربية الى مقر قيادة الحزب الشيوعي (في "القصر") من اجل مصافحته. لم يرتض بمصافحة. قبّلني. نعم قبّلني وشعرت بأنني أطير فرحا. أين المصورون يصورونني. أين والدي يشهد على فعلتي. كيف أوثّق القبلة؟
ظل الخط البياني لعلاقتي بعرفات خطا تصاعديا. وساهم في توطيدها وجود منزلنا في شارع عفيف الطيبي في الجامعة العربية. كان حينذاك "شارع الثورة".
في العام 1982، عشت مرحلة الحصار في بيروت. وزاد ايماني بعرفات. كانت الطائرات الاسرائيلية تطارده من ملجأ الى ملجأ. الصدفة جعلتني التقيه في ملجأ سينما "المارينيان" في نهاية آب. سهرنا معه وشربنا القهوة والشاي(مع البيسكويت). وانسحب من بعدها كالشبح... الى حيث لا احد يرصده.
يوم غادر عرفات ورفاقه بيروت. بكيت وكنت متكئا على عكاز بعد اصابتي بشظية في قدمي. ربما كان بكاء الخوف والخطر والمرارة. الرمز يغادرنا. الثورة تغادرنا. أي مصير ينتظرنا. في الثالث والعشرين من آب تبدل الزمن. بشير الجميل صار رئيسا للجمهورية. جاءني قريبي من القرية ليزودني بأغراض وثياب من أسرتي على سرير الاصابة في احد المستشفيات الميدانية في بيروت. قال لي ضاحكا: "صحتين على قلبكم. شو عملتو؟ بيروت دمرت وجاء بشير رئيسا. مش أحسن كان تترك بيروت مثلك متل غيرك". اذكر انني لم ارد بكلمة. لكنه بعدما ودعني، طلبت من المسؤول الحزبي الحصول على منحة للدراسة في احدى الدول الاشتراكية. القرار الذي لا عودة عنه هو ترك لبنان سريعا وسريعا جدا.
قتل بشير وتغيرت معادلتي الشخصية. ألغيت سفري وجيرت منحتي لآخر. مزقت التأشيرة الى الاتحاد السوفييتي السابق. واستعدت شيئا من انفاسي. نعم هكذا كانت احوالي في ذلك الزمن.
في مطلع العام 1983، اندلعت احداث شمال لبنان وانقسمت "فتح" الى "فتحين". خرج عرفات من طرابلس بالباخرة ايضا. يوم ذبح الشيوعيون بالعشرات في محلة الميناء بطرابلس، بدأ تراجع الخط البياني لعلاقتي بياسر عرفات. وظل يتراجع تدريجيا. اندلعت الانتفاضة الاولى وجاءت الانتفاضة الثانية وما بدلت في مزاجي ابدا إزاء الرجل. انطلقت التظاهرات في بيروت تضامنا مع الفلسطينيين وعرفات وكنت اردد دائما: لن أشارك في تظاهرة ترفع فيها صورة لياسر عرفات او صدام حسين.
لحظة قيل في "المقاطعة" إن عرفات في وضع حرج. شعرت برغبة في الاعتذار من الشعب الفلسطيني. ولحظة قال نبيل ابو ردينة ان عرفات في وضع حرج، تيقنت انني كنت اكذب طيلة سنوات. هو الخط البياني نفسه لم يتبدل. لا ادري ما هو سر حبي لهذا الرجل. ربما اشتم فيه شيئا من رائحة أبي. ربما ارى صورة لم يألفها جيلنا من قبل او بعد.
عذراً من كل فلسطيني ومن كل انسان أحب عرفات. ليتني مشيت تحت صورته. ليتني لم انتظر موعد جنازته.
*("الايام" الفلسطينية 21/12/2004)