وداعاً .. أبا عمار
بقلم: د. حسن حنفي
عرفته عام 1952 عام الثورة المصرية في الجامعة، عندما أتى ليدربنا في المدينة الجامعية لطلاب جامعة القاهرة بعد أن قررت الثورة فرض التدريب العسكري على الطلاب في الصيف استعداداً لمعركة طرد القوات الانجليزية من قناة السويس وقاعدتها في التل الكبير، استئنافاً لمعركة القناة التي قادتها الحركة الوطنية المصرية في قناة السويس في 1951 قبل الثورة، والتي كان عصبها الإخوان المسلمون والضباط الأحرار، وقد أجهضت بحريق القاهرة في كانون الثاني 1952 الذي أسرع باندلاع الثورة في تموز من العام نفسه. ورأيته آخر مرة في حزيران 1990 في منزله في بغداد على العشاء مع لطفي الخولي ويوسف شاهين أثناء مؤتمر مساندة العراق ضد تهديد بوش الأب بغزوه والذي تلته السنوية الاولى لميشيل عفلق. قد يأتي هذا الوداع متأخراً ولكنه ما زال في وقت الحداد. والذكريات تتجاوز الأوقات كما يتجاوز الخلود الزمان. كان بين الحياة والموت على مدى نصف قرن في الأردن والكرامة وبيروت والصحراء الليبية وتونس ورام الله. يأتي أبو عمار ويذهب ويظل علامة ورمزاً وصورة في التاريخ. فقد توحَّد مع القضية الفلسطينية. وأصبحت الكوفية الفلسطينية على الرأس والمسدس على الجنب رمزين لهما. لا يذكر أبو عمار إلا وتذكر فلسطين. ولا تذكر فلسطين إلا ويذكر أبو عمار. فهو الزعيم الأوحد بالرغم من زعماء الفصائل في حماس والجهاد وفتح، والجبهتين الشعبية والديمقراطية، ولم يكن يوازيه إلا الشيخ ياسين مؤسس حركة حماس وباقي قيادات الفصائل. كان آخر المناضلين العظام في الخمسينيات والستينيات من قادة حركات التحرر الوطني، مثل شوين لاي، وهوشي منه، وسوكارنو، ونهرو، وتيتو، وعبد الناصر، ونكروما، وسيكوتوريه، وجومو كنياتا من الراحلين، ونيلسون مانديلا ومبيكي وكاسترو من الباقين.
لقد حافظ على وحدة الشعب الفلسطيني بكل تياراته ومنظماته وفصائله. واستطاع رفع التناقض بينها. ولم يقع بين المناهج والرؤى والمداخل المختلفة للقضية، وهي طبيية في مراحل النضال الوطني للشعوب، جمع بين المثالية والواقعية، المثالية بالتمسك بالحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني المعروفة، الانسحاب من الأراضي المحتلة في عدوان حزيران 1967، وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. بل إنه ضحى بورقة كلينتون في كامب ديفيد الثانية لأنها لم تكن واضحة بالنسبة للقدس، وهو ما حاولته مفاوضات طابا، ولا في حق العودة كما هو الحال في وثيقة جنيف. والواقعية في تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان ينص على إنشاء دولة ديمقراطية تعددية واحدة يتعايش فيها الجميع بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية، وهو النموذج الاندلسي القديم، والاعتراف المتبادل بحق الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في العيش في دولتين مستقلتين في أمن وسلام. وحصل في المقابل، وبعد اتفاقيات مدريد وأوسلو وواشنطن والقاهرة وعمان، على إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية لأول مرة على أرض فلسطين، وإعادة المنظمة من تونس إلى فلسطين، لتستأنف النضال من قلب الوطن المحتل. وتحولت قضية فلسطين من قضية لاجئين إلى قضية شعب محتل يناضل من أجل الاستقلال. واستطاع أن يكسب تأييد العالم كله لقضية فلسطين حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة عند الديمقراطيين وداخل إسرائيل في حركة السلام الآن، وكما عبرت عن ذلك وثيقة جنيف. وحازت قراراتها في الأمم المتحدة لمناصرتها على شبه إجماع جميع الدول على حقوق شعب فلسطين باستثناء أميركا وإسرائيل وجزيرتين أو ثلاث من جزر المحيط التي لا يبلغ تعداد سكانها حجم شعب فلسطين. جعلته إسرائيل وأميركا عقبة في سبيل السلام لأنه لم يتنازل عن الحقوق الأساسية لشعب فلسطين، والآن وبعد رحيله تعتبر أميركا وإسرائيل المقاومة هي العقبة تهرباً من استحقاقات السلام.
وبطبيعة الحال تختلف معه الفصائل لأنهما تمثل الجانب المثالي فيه دون واقعيته. فمن يرفض تحرير الأرض بالسلام (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة). ومن لا يتمنى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. الأماني القومية قد لا يحققها جيل واحد وبأسلوب واحد. فقد ظل الصليبيون في إمارات الشام أكثر من مائتين وخمسين عاماً، وانتهوا بالاندحار. وقد كان هو نفس مصير الاستعمار الغربي الحديث لمعظم الدول العربية والإسلامية. وقد تحررت جنوب إفريقيا بعد ثلاثة قرون من قدوم الرجل الأبيض إليها. وكذلك تحررت الهند بعد عدة قرون. وكان العام 1918 هو عام النكبات، بتقسيم الهند، وإقامة الحكم العنصري في جنوب إفريقيا، وتقسيم كشمير. والآن تحررت جنوب إفريقيا وما زال الشعب الكشميري والشعب الفلسطيني يناضلان. ومن الطبيعي أن يختلف معه (المعتدلون) أو الواقعيون أنصار التوسية طبقاً لمبدأ (خذ وطالب) نظراً لتغير ظروف العالم وظروف الوطن العربي. ومن يرفض السلام (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، وصلح الحديبية كان في الظاهر تنازلاً وفي الحقيقة مكسباً كبيراً بعد أن قويت الشوكة حتى فتح مكة.
وأبو عمار في النهاية حاكم عربي لوطن عربي في أمة عربية وفي مرحلة تاريخية راهنة نعاني منها جميعاً. هو عرضة للنقد مثل غيره من حكام العرب. فقد طالت مدة الحكم دون تداول للسلطة كما فعل مانديلا ومهاتير محمد وطغت شخصيته على كل القيادات الأخرى من الصفين الأول والثاني. وهو نفس الوضع في معظم أرجاء الوطن العربي. فلماذا نريد منه ما لا نريد من غيره؟ وقيل عن الفساد المالي والإداري والتسلط في الحكم والشللية والولاء للأشخاص وتقريب المقربين، وإبعاد المبعدين. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك. فهو حاكم عربي. وَمَنْ الحكام العربي لا تقال عنه نفس الاقاويل ؟ فلماذا نريد أن نجعله استثناء من القاعدة؟ وقع في أخطاء سياسية مثل الصدام مع الأردن بعد أن تجاوزت أفعال المقاومة حدود الدولة المضيفة، وهو طبيعي نظراً لوحدة الشعبين والقضيتين. ومن الطبيعي أن يتحول جنوب لبنان المناضل إلى أراضي فتح. فلبنان اصغر بلد عربي من حيث الحجم إلا انه اكبر قامة عربية من حيث النضال. ففي الجنوب نصف مليون فلسطيني في المخيمات، ومنه انطلقت المقاومة، وفيه تم التحرير للجنوب بفضل (حزب الله)، والعظام هم الذين يقعون في الأخطاء السياسية. تأييد غزو صدام للكويت خطأ سياسي، وتأييد العدوان الأميركي على العراق بدعوى تحرير الكويت بل وإرسال قوات عربية للمشاركة في قتل العربي لأخيه العربي أيضاً خطأ سياسي.
ومجموع الخطأين لا يكون صواباً. ومهما كان السبب في مغادرته هذه الدنيا، فالآن تتحرك القضية بعد طول انتظار بعد ان انشغل الجميع في العدوان على العراق. وتم نزع حجة إسرائيل وأميركا من انه لا يوجد شريك فلسطيني لمفاوضات السلام. وربما تريد أمريكا وبريطانيا التكفير عن أخطائهما في العراق وغسل دماء العراقيين بدماء الفلسطينيين والإقلال من العداء للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إذا ما قامت الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. إن الزخم الفلسطيني الآن لقادر على دفع القضية إلى الأمام، غصن الزيتون أو البندقية، وكما استشهد الحاج أمين الحسيني في النكبة الأولى في 1948، واستطاع الشقيري تحويل القضية من الهزيمة إلى الرفض. فقد استطاع أبو عمار تحويل الرفض الى ثورة، وقد يستطيع من يخلفه أن يحول الثورة الى دولة. وإذا كانت انتفاضة الحجارة الأولى قد أتت بالسلطة الوطنية الفلسطينية، تستطيع انتفاضة السلاح الثانية تحقيق الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس. وإذا أزمعت الإدارة الأمريكية في مدتها الثانية أن تغسل عار العراق بحق فلسطين، فلم لا؟ (أفلح إن صدق).
"من كتاب :ياسر عرفات : وتبقى فلسطين "
صامد الاقتصادي العدد 139-140
2005