غصن الزيتون
بقلم:جبران تويني
مات "أبو عمار". مات ياسر عرفات. مات "الختيار"..
ولكن هل يموت الكبار فعلاً؟ بمعزل عن رأينا الخاص بهم - ونحن ممن كانوا على خلاف مع عرفات بل في حال عداء معه خلال الحرب على لبنان - هل مات جون كينيدي، وتشي غيفارا وعبد الناصر، وخروتشوف وديغول؟
الكبار لا يموتون، لأنهم يؤسسون من أجل المستقبل، فتستمر أفعالهم بعد غيابهم.
قد يكون ياسر عرفات آخر عمالقة العرب، وربما آخر عمالقة هذا العصر!
والكبير يبقى كبيراً، أأحبته أم كرهته. أحالفته أم خاصمته.
وياسر عرفات هو من هؤلاء.
كان رجل التناقضات، هذا الرجل الذي حمل غصن الزيتون في يد والبندقية في يد أخرى. لقد حلم طوال أيامه بالعودة، فعاد إلى فلسطين ليبني فيها المدماك الأول للدولة الفلسطينية المستقلة.
ليس سهلاً أن تكتب اليوم عن ياسر عرفات، وخصوصاً إذا كنت تنتمي الى جيل الحرب - جيلنا- الذي عاش أيام الصبا، أيام الدراسة وهو يحلم بالثورة الفلسطينية، وبكل الثورات. هذا الجيل الذي كان يعتمر الكوفية لأنها كانت تعبِّر عن غضبه وثورته الدائمة ساعياً إلى التغيير.
لكن هذا الجيل سرعان ما تخلى عن تلك الكوفية وعن الثورة الفلسطينية في أوائل السبعينيات، ثم يوم اندلعت الحرب في لبنان، وأصبح "أبو عمار" الطرف الأساسي في الحرب اللبنانية.
لقد انتقل أبناء جيلنا من التأييد الأعمي لـ "أبو عمار" وثورته، إلى الخصومة العمياء، كي لا نقول العداء النهائي، له ولثورته..
يومها حمل جيلنا السلاح في وجه السلاح الذي كان مطلوباً منه أن يحرر فلسطين، فإذا به يستعمل لشق طريق فلسطين من جونيه وبيروت والجبل والدامور على حساب لبنان وشعبه!
طوال مرحلة الحرب كنا في حالة حرب مع أبو عمار، لأننا اعتبرنا أن الدماء اللبنانية التي نزفت لتروي أرض لبنان، قد نزفت لكي لا يتحول لبنان وطناً بديلاً، فلسطين الأخرى - أو يعطى جائزة ترضية مقابل أرض قد لا تستعاد - يومها اعتبرنا أن أبو عمار هو الذي تنازل عن حلمه وأرضه وقضيته!
وبعدما رحل أبو عمار من لبنان مع مقاتليه وبندقيته التقيناه في الأردن، فكانت مقابلة عاصفة، تحول اللقاء الصحافي فيها إلى قصف كلامي من وراء متاريس ارتفعت خلال دقائق، لكن وبعد "فشة خلق" بدأ الحوار بلغة العقل والمنطق، وانطلق مشوار المصالحة مع حلم الستينيات وثورة الصبا.
أما اللقاء الثاني فكان في منفاه التونسي حيث كان الحوار حاراً وحميماً وعميقاً.
أما اللقاء الثالث فكان في بغداد بعد اغتيال "أبو جهاد"، حيث كان أبو عمار يراهن على الانتفاضة من أجل إحداث التغيير.
أما اللقاءات الأخيرة فكانت مع رجل غصن الزيتون في دافوس، حيث تحول ياسر عرفات من المقاتل الأول إلى المحاور الأول والمسالم الأول!
خلال كل لقاءاتنا به، كان أبو عمار يتكلم على لبنان والدمعة في عينيه والغصة في قلبه، يتكلم عن لبنان معترفاً بالأخطاء وبالفخ الذي وقعت فيه المقاومة نادماً - نعم نادماً- على أخطاء الماضي، متشوقاً إلى مصالحة كل اللبنانيين، وكسب ثقتهم، وفتح صفحة جديدة معهم، متمنياً أن يكون ذلك ممكناً.
كلمة حق تقال اليوم عن أبو عمار. وبمعزل عن كل الاعتبارات وعن موقفنا منه، فإن ياسر عرفات نجح في خلق مجتمع فلسطيني مقاوم، واحد موحد، فعندما كنا نخاصم المقاومة أو نؤيدها، لم نكن نفرِّق بين فلسطيني وآخر، بين مسلم ومسيحي، ولهذا السبب بالذات نجح أبو عمار في ثورته.
أما الخطر اليوم، فهو أن يتوسع الصدع الفلسطيني بعد انتشار "سوسة" التفرقة الأصولية والتطرف الإسلامي الأعمى الذي طالما رفضه أبو عمار خوفاً من أن ينقسم المجتمع الفلسطيني ومعه الثورة، آخذاً العبر كل العبر من الحرب اللبنانية!
ولا أنسى قوله لي ذات يوم: "إياكم أن تقعوا في فخ التفرقة من جديد. إياكم أن تنقسموا حول ولائكم للوطن. إياكم أن ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبناها نحن الفلسطينيين في الأربعينيات، حيث فقدنا الأرض... لديكم أغلى كنز في العالم. لديكم لبنان، إياكم أن تضيّعوه، فحافظوا عليه وسامحونا!
وأضاف: "حلمي أن أعود إلى فلسطين، أي فلسطين، حتى إذا كانت بحجم علبة كبريت، لأن المهم أن أبدأ من مكان ما، وأن أرفع العلم الفلسطيني على أرض فلسطين، فتبدأ صغيرة وتتوسع في ما بعد، لذلك سأقبل بأي مشروع حل انطلق فيه لتنطلق به مسيرة العودة".
لقد عاد أبو عمار إلى فلسطين، ومعه بدأ السلام، ولكن سرعان ما عاد الختيار إلى موقع رجل التناقضات، حيث تحوّل من مناضل من أجل الديمقراطية إلى خائف منها، ومن مطالب بالحل السلمي إلى متردد دائم، فتوقفت المسيرة وأصبح الحل هو المشكلة!
ربما أراد أبو عمار، وللمرة الأخيرة، ألا يرتكب الخطأ المميت بحق القضية، مكرراً أخطاءه اللبنانية وأخطاء بعض زعماء العرب - كي لا نقول كلهم - المصابين بمرض التسلط والتفرد والاستئثار.
فرحل الرجل ليعود هذه المرة إلى منفاه الأخير متمنياً أن يكون موته غصن زيتون السلام الداخلي الفلسطيني، وطريق سلام إلى فلسطين والمنطقة.
"النهار" اللبنانية 12/11/2004