توفيق وصفي

2015-12-09

بعد كَفكَفة الدموع

بقلم: *توفيق وصفي

أبكانا الرحيل المؤلم للرئيس أبو عمار، رحمه الله، كما لم نبك أحداً، بدموع تلقائية، وحسرات غير مألوفة، من دون أن يتسع مشهدنا، نحن الباكين عليه، لأسئلة منطقية، تَلِي رحيلَ الكبار، تلك التي تبحث عن "ما بعد عرفات"، الرئيس والقائد والرمز والأب، وأوصاف أخرى، لا تنحصر في التمجيد، بقدر ما هي أسئلة الحاجة والضيق، الناجمة عن فراغ هائل، لم نتوقع أن ينشأ من موت ذاك الشيخ المريض، على عظمته في حياتنا.

ومع مغيب شمس الجمعة اليتيمة من رمضان، أدركنا أننا أيتام، أكثر من أي وقت مضى، فها هو أبانا قد ووري الثرى، بعد جنازة أسطورية، حظينا جميعاً بالمشاركة فيها، بالعيون والقلوب، حتى يكاد المرء منا يذوب في المشهد الدائر أمامه، على شاشات التلفزة، في باريس والقاهرة ورام الله، وإن كان في غزة أو في الخليل..وها نحن نجلس في بيت العزاء، هنا أو هناك، نتقبل التعازي فيما بيننا، يردد كل منا للآخر: "الخاطر واحد"، فيما الدمعات تترقرق في العيون، مختلطة بالتنهدات، فيبحث الأيتام عن الكلمات التي يواسون أنفسهم بها، بسرد الذكريات الشخصية مع الراحل العظيم، يرفع كل منهم نفسه إلى القمة التي يتربع عليها أبوعمار، كونه حادثه مرة أو لاطفه، أو حتى تلقّى منه انتقاداً أو عقاباً عسكرياً أو تنظيمياً.

ولأنّ مساحة الحزن في حياتنا نسبية، فإنها لا تمتد إلى حدود الفجيعة، وإلا لكنا غرقنا منذ عقود في لجة النواح واللطم على الخدود، لأننا معجونون بإرادة حاسمة بأن نكون سادة أنفسنا، مهما كلف الأمر، وإن متنا جميعاً..سرعان ما كُفكِفَ دمعنا، ليس مهماً بإرادتنا أم بعفوية، فإذا بنا نتبادل الهواجس والأسئلة، ليس فقط عما اكتنف وفاة الرئيس من أسئلة وألغاز، تتحدث صراحة عن مؤامرة لاغتياله بالسم، بل كذلك عما أراده لنا من فعلوا ذلك، فمن يَفتَرض أن ثمة مؤامرة، فإن عليه أن يبحث عن المستفيد، وعما يهدف إليه من جريمته، وبالضرورة سيكون الشعب الفلسطيني هو المستهدف أولاً وأخيراً.

كان الرئيس ابو عمار أكثر من رافعة للموقف الوطني الفلسطيني العام، رغم كل التحفظات الفلسطينية على تكتيكاته السياسية، فقد كان الرافعة والسقف في آن، إذ شكّل مظلة ساترة لتعقيدات الوضع الداخلي، تُبقي في كل الأحوال دخانه وشوائبه تحتها، حتى من ينفر وينأى بنفسه عن هذه المظلة، سرعان ما نراه عائداً إلى رحابها، فلا مظلة سواها..وبرحيله، زالت هذه المظلة، كاشفة عيوبنا وضعفنا وتيهنا، لأنفسنا أولاً، ثم للعالم، العدو والصديق، فبالرغم من أننا بدونا عظاماً بعظيمنا وهو يرحل، فإننا لم نرق إلى مستوى اللحظة، فنحتمل أحقادنا وحساباتنا وسوء ظننا، ولو لبعض الوقت، أقله إنقضاء أيام العزاء الرسمي، فاتحين الأبواب على أسئلة مخيفة، في لحظة مهيبة خالدة.

هل نستطيع اجتياز المانع النفسي فيما بيننا، ولو إكراماً لمن نُجمع على أنه أبونا الشهيد، فنضع أسئلتنا على بساطنا، وليس بساط غيرنا، فذاك سر تواصل مسيرة الكفاح الفلسطيني، الذي أدركه مبكراً أبوعمار، القرار الفلسطيني المستقل، مهما بدا مُغضباً للأشقاء والأصدقاء والأعداء، وأدركه كثيرون، ولو متأخرين.


*("الايام" الفلسطينية 15/11/2004)