بلال الحسن

2015-12-09


عرفات الإنسان قبل عرفات القائد

بقلم : *بلال الحسن

كنت في بداية عملي الصحافي العام 1965 في جريدة "المحرر" في بيروت. وهناك بدأ يزورني شخص لا أعرفه، يأتي بسرعة، ويذهب بسرعة، ويتكلم بلهجة مصرية. يسلمني بيانا عسكريا لحركة " فتح "ويوصيني بنشره، ثم ينهض ليمضي، فألحق به وأسأله: من أنت؟ ما اسمك؟ فيبتسم ويقول: لا يهم، اسمي عبد الرؤوف.

 وتمضي أسابيع، وتنتدبني الجريدة لإجراء حوارات فلسطينية بمناسبة 15 أيار، فأذهب إلى دمشق لإجراء حوار مع ثلاثة أطراف كانت هي المتواجدة على الساحة الفلسطينية آنذاك: حركة فتح، وحركة القوميين العرب، وجبهة تحرير فلسطين التي اصبحت فيما بعد الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة. وقد اتصلت بمكتب حركة فتح وطلبت موعدا مع ياسر عرفات، وذهبت إلى المكتب في الموعد المحدد، ووجدت نفسي أمام عبد الرؤوف الذي كان يحضر لي البيانات العسكرية. وضحك وضحكنا، وكانت بداية علاقة صحافية وسياسية ونضالية وإنسانية ، تواصلت ولم تنته إلا بموته فجر يوم الخميس الماضي، في المستشفى العسكري في باريس.

 تواجد في ذلك اللقاء ثلاثة من مسؤولي فتح تعرفت عليهم لأول مرة: ياسر عرفات وفاروق القدومي (ابو اللطف) وخليل الوزير (ابو جهاد). كانت ملاحظتي الأولى أن كل شخص منهم يختلف نوعيا عن الآخر. ياسر عرفات كان يسألني بدل أن أسأله، ماذا تريد منا؟ وقلت: أريد إجراء حوار يشرح رؤيتكم الاستراتيجية، فيرد متهما: تريد أن تقدم للعدو الإسرائيلي خدمة مجانية بإطلاعه على استراتيجيتنا؟ وأقول: إذا كنت لا تريد أن تتكلم فأستطيع أن أذهب، ولكن لا تلوموني وتقولوا: أجريت حوارا مع الجميع وتجاهلت فتح. ويرد عرفات مبتسما: إجلس يا رجل، لن ندعك تخرج خائبا. خليل الوزير كان انطباعي الأول عنه أنه الشخصية النقيض لياسر عرفات. هادئ، قليل الكلام، يصغي إليك بتهذيب، ولا يتورع أن يسألك ليعرف. فاروق القدومي كان الرجل الأساس في تلك الجلسة. كان هو المكلف من قبلهم بالحديث معي، ولفت نظري بأسلوبه في الحديث، كان يتحدث بصوت عال، ويتدفق، مكثرا من الاستشهاد بالثورات والثوريين العالميين، حتى أن خليل الوزير كان يقاطعه في بعض الأحيان طالبا منه أن يتريث لكي يسمع مني. وقد عدت من مهمتي الصحافية ونشرت المقابلات، ولكن معرفتي ببعض شخصيات حركة فتح الأساسيين، وانطباعاتي عن شخصياتهم، بقيت راسخة في ذهني.

 ودار الزمن دورته، من دمشق إلى عمان إلى بيروت حيث استقرت قيادة الثورة الفلسطينية، ونشأت علاقة شبه يومية بيني وبين عرفات، إذ رغم عدوانيته معي في اللقاء الأول، إلا أنني اكتشفت حرصه الشديد على إنشاء أوثق العلاقات مع الإعلام، وقد سعيت إلى أن أستفيد من هذا الحرص إلى أقصى حد. ولا أريد هنا أن أتحدث عن عرفات في مواقفه الكبيرة، فهي معروفة كلها، وكلها ملك للتاريخ. إنما كانت هناك مواقف صغيرة، أو هي تبدو صغيرة، ولكنها تكشف عن جوهر عرفات كقائد كبير.

 أثناء حصار بيروت العام 1982، وكنت خارجا بعد منتصف الليل من جريدة >السفير< التي كنت أعمل بها، كان الظلام دامسا بسبب انقطاع الكهرباء، وكنت أتلمس سيري تلمسا، وتوقفت عند رصيف الشارع بانتظار مرور سيارة جاءت من بعيد. ولكن المفاجأة كانت أن السيارة توقفت أمامي، وانفتح بابها فجأة، وامتدت يد من داخل السيارة وجذبتني حتى ظننت أنني اختطفت، وما هي إلا لحظات حتى وعيت ما حولي، ووجدتني بحضور ياسر عرفات، وقال لي: هل أنت ذاهب للنوم؟ لن ندعك تنام هذه الليلة وستبقى معنا. لم أفهم قصده، ولم أسأل، وتركت الحدث يأخذني كما يريد. استطعت في تلك الليلة أن أدرك لماذا أصبح هذا الرجل قائدا محبوبا ومسموع الكلمة، فقد ذهبت سيارة عرفات باتجاه الخطوط الأمامية حيث مواقع المواجهة مع القوات الإسرائيلية التي تحاصر بيروت. كان عرفات يحفظ خارطة المواقع في رأسه، وهو الذي يوجه السائق نحو الموقع الذي يريد الذهاب إليه. وعند وصوله، كان ينزل من السيارة، لا يبعد عن مواقع الجيش الإسرائيلي سوى عشرات الأمتار، فيأتي إليه المقاتلون يسلمون عليه ويعانقونه، ويسألهم هو عن معركة تلك الليلة، وعن الشهداء والجرحى، ويسألهم عن حاجتهم من الماء والطعام والذخيرة. وبعد أن يطمئن عليهم يعود إلى السيارة ويتجه نحو موقع آخر. ولم تنته هذه الجولة إلا عند السادسة والنصف صباحا، وعندها، وعندها فقط، كان عرفات يذهب لينام بضع ساعات. وهكذا رسخ في ذهن كل مقاتل فلسطيني أن عرفات هو قائده، لأنه هو الذي يتواجد معه في المكان الصعب، وفي اللحظات الصعبة. وبسبب ذلك أصبح عرفات قائدا، وباستمرار ذلك أصبح قائدا تاريخيا. أما الصفات "الخارقة" فلا مجال لها في صنع تاريخيته، فهي من أوصاف الكتاب والمحللين، أما على الأرض، فقد صنع عرفات شخصيته القيادية والتاريخية بجهده ودأبه، وبتعايشه لحظة بلحظة مع جنوده ومقاتليه.

 ودارت دورة الحصار، وتحدد اليوم الذي سيغادر فيه عرفات بيروت عن طريق البحر (يوم 29 آب/ 1982)، وتجمعت بيروت كلها في الميناء تودع عرفات، وكنت واحدا من الآلاف بين الحشود المودعة، وحين تحركت السفينة نحو تونس، عدت إلى شوارع العاصمة، شاعرا بالوحدة والوحشة كما لم أشعر بهما من قبل، وجلست في مكتبي أتصفح دفتر التليفونات، وزاد هذا التصفح من إحساس الوحدة والوحشة، فكثير ممن هو مسجل في ذلك الدفتر الصغير كان قد استشهد أو غادر، ولم يعد هناك مجال للاتصال اليومي معهم، للقائهم أو لمعرفة الأخبار منهم.


*("الايام" الفلسطينية 21/12/2004)