في وداع عرفات
بقلم: د. برهان غليون
التقيت الرئيس الراحل ياسر عرفات أول مرة في الأردن عام 1968، وكنت قد تخرجت للتو من الجامعة، من ضمن لقاءات أخرى جمعتني خلال خمسة عشر يوماً مع العديد من قادة الحركة الفلسطينية. ولا أخفي أن الحافز الأساس لهذه الزيارة واللقاءات التي نجمت عنها كان اتخاذ قراري بالانضمام إلى المقاومة الفلسطينية، أو السفر إلى أوروبا لاستكمال الدراسة والعودة للمشاركة في ما كان يبدو لي المهمة التاريخية الرئيسية لجيلنا، وأعني مواجهة تعبات الهزيمة المدوية للسادس من حزيران عام 1967، والمساهمة في إعادة بناء المنطقة العربية على أسس جديدة تختلف عن تلك التي أدت إلى الهزيمة وضمنت استمرار التخلف والعطالة العربيين، وهو ما كان يضغط بقوة على وعي جيلنا الحالم وعلى ضميره المعذب معاً.
وليس هدفي هنا التفكير في ما لم يخطر في بالي أن أفكر فيه قبل وفاة الرئيس الفلسطيني، أعني ما الذي دفعني إلى ترجيح الخيار الثاني ومنعني من الانضمام لإحدى حركات المقاومة بالرغم من بعض (العروض) الكريمة التي قدمت لي في ذلك الوقت. لكن من الواضح لي اليوم ان الحركات الفلسطينية اليسارية التي كانت تتفق بشكل اكبر مع رؤيتي النظرية لتلك الفترة لم تحدث عندي قناعة قوية، في حين أن حركة فتح التي كنت قد شاركت مع زملاء لي في إصدار نشرتها العلنية (الثورة الفلسطينية) من دمشق منذ عام 1976، كانت تخضع في تلك الفترة لنزعة عسكرتارية أو نشاطوية قوية، تجد في السياسة والتنظير السياسي خطراً على الوحدة الوطنية وتعلق جميع آمالها بالبندقية.
وهكذا، بينما كانت حركات المقاومة الفلسطينية اليسارية والقومية العربية تعاني من الافراط في المناظرة الفكرية والتنظير، كانت حركة المقاومة الفتحاوية تعاني بالعكس من الخوف المفرط من التفكير النظري، إلى درجة أننا هوجمنا نحن العاملين في مجلة الثورة الفلسطينية، وتم استبعادنا منها في الفترة ذاتها تقريباً، التي كنا ننوي فيها الانضمام إلى صفوفها، وكانت التهمة أننا نشكل خطراً على الحركة بسبب إدخالنا المناضلين في متاهات التفكير والسياسة النظرية.
ولعل ما بقي حاضراً في ذاكرتي حتى اليوم من هذا اللقاء الأول بعرفات، هو هذه الديناميكية الجسدية التي كان يتمتع بها، والتي جعلتني أفكر في تلك اللحظة أنها هي التي تشكل مصدر تفوقه على جميع زملائه، هذا هو على الأقل الانطباع الذي تركه عندي لقائي الأول مع ياسر عرفات، الذي لم يفعل شيئاً آخر غير اصطحابي معه في جولاته الميدانية متبادلاً معي من فترة لأخرى بعض الأفكار السريعة، بينما قضيت ساعات عديدة أسمع تحليلات سياسية متباينة القيمة مع قادة آخرين. لقد بدا لي أن زعامة عرفات القيادية مستمدة مباشرة من ديناميكيته الجسدية الاستثنائية التي يسعى من خلالها إلى تحقيق ما يحاول الآخرون فرضه بقوة آرائهم الفكرية أو بتحليلاتهم النظرية.
أما المرة الثانية التي جمعتني بياسر عرفات، فقد كانت في تونس التي اضطر إلى الإقامة فيها مع حركة المقاومة الفلسطينية بأكملها، بعد خروجه من لبنان تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي وبعد الصدام السوري الفلسطيني في طرابلس، لكن في هذه الفترة لم يعد عرفات هو نفسه الذي قابلته في الأردن عام 1968، كما لم أعد أنا نفسي ذاك المثقف بالباحث عن مكانه في حركة السياسة المشرقية في بداية حياته. كانت معركة الصراع على الزعامة الفلسطينية التي كانت تسيطر على حياة المنظمات الفلسطينية وقادتها أثناء زيارتي الأولى لها في السبعينيات في الأردن قد حسمت نهائياً وأصبح ياسر عرفات زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية من دون منازع.
وهكذا، أتيح لي هذه المرة أن أتعرف على رجل آخر تماماً، فلم يعد عرفات ذاك القائد العسكري الشاب الذي ينتقل بلمح البصر من موقع إلى موقع، يتحدث مع أكثر من شخص ويعمل في أكثر من مكان في وقت واحد. لقد صار الحاكم السياسي الحقيقي لشعب كامل حتى لو أنه لم يكن يعيش على الأرض ذاتها التي يعيش عليها الشعب الذي يحكمه، ولا يمتلك الأدوات ذاتها التي يملكها الحكام عادة لتحقيق سياساتهم وتنفيذ قراراتهم، وصار مقره مركز سلطة عمومية يستقبل فيه السياسيين والصحافيين وكبار المسؤولين لا يغيره ولا يغادره تقريباً، في هذه المرة لم يصحبني عرفات في جولاته الميدانية، ولكنه دعاني إلى أن أرافقه في مهامه السياسية التي كان يبدؤها في مكتبه في الثانية أو الثالثة صباحاً حتى الفجر.
لقد تصرف كما لو كنا نعرف بعضنا بعضاً تماماً، دون تصنُّع ولا تكلُُّ، لم يأخذ الحديث في الموضوع الذي كان غرض الزيارة، والذي لم ير النور لأسباب أخرى سوى وقت محدود جداً، كان عرفات قد حسم قراره قبل لقائي معه، ولم يكن يسأل كثيراً عن التفاصيل، قال للعاملين معه قدموا لنا العشاء، ودعاني إلى العشاء معه وكان بطيخاً أحمر وجبناً، بعد أن انتهينا شربنا الشاي ثم طلب مني أن أبقى لأستمع إلى مقابلة صحفية كان قد اتفق عليها مع أحد الصحافيين الأجانب، كما لو كان يريدني أن أكون شاهداً. كنا نتبادل الحديث بأشياء، وأخرى وهو يعد نفسه للمقابلة ويدقق في وضع ثيابه، وبشكل خاص في ترتيب وضع كوفيته وعقاله، كما لو كان يعد نفسه لدور مسرحي.
فاجأني بعد المقابلة بسؤاله عن رأيي في ما قاله، فلم أجد ما أقوله، وقد كنت مأخوذاً بالموقف كله، وبما أحاطني به من مودة وتبسط ورفع كلفة، ولم أجد إلا عبارة واحدة: لينصركم الله. لم يجب ولكنه كان سعيداً بلقائه الصحافي، وبدا لي شديد المرح والإعجاب بالنفس. لقد كان في سلوكه مزيجاً من الألفة ومشاعر الأخوة والبساطة والوله الذاتي معاً، وجمع في شخصيته بين روح طفولة مرحة لا مهتمة وإرادة كهل شديد الخبرة والمراس. لق بدا لي في الوقت نفسه أحد أطفال الحجارة ورجل المصير الذي يقيس اختياراته بمقاس التاريخ والحوادث العظيمة.
ومما لا شك فيه أن عرفات كان ينظر إلى خياراته وقراراته على أنها قرارات واختيارات مصيرية تحدد في ما وراء السلطة التي يمثلها، والمنظمة التي يرأسها، مستقبل الشعب الذي ينتمي إليه والذي أخذ على عاتقه قيادته إلى النصر، ذاك الذي لم يشك لحظة أنه في انتظاره.
التقيت عرفات في لقاءات سريعة في ما بعد، لكن لم أره بعد عودته إلى فلسطين، وفي فلسطين تحول القائد الذي صار إليه عرفات منذ خروج المقاومة من بيروت إلى رمز، بعد أن انتزع منه الاحتلال كل سلطة وصوت. وها هو الرمز يتحول في موته من جديد إلى رئيس من لحم ودم، رئيس دولة فلسطين والمؤسس الفعلي لوطنية بدت بعد وفاته أكثر توهجاً وحضوراً من أي وقت سابق.
"من كتاب :ياسر عرفات : وتبقى فلسطين "
صامد الاقتصادي العدد 139-140
2005