عـرفـات الــودود ذو شجـاعـة نـادرة
بقلم :* أوري افنيري
التقيت به حوالي مئة مرة، وكنت بصحبته مئات الساعات. انه رجل بخلاف ما يظهر على شاشة التلفاز. إنه يظهر في التلفزيون كشخص متعصب، هجومي، في حين أنه في حياته اليومية إنسان ودود. وكل من يلتقي به يشعر بعد دقائق كمن يعرفه منذ الأزل. اذ لا تحيط به مراسم السلطة كما هو الحال عندنا. وعدا ذلك فإنه يوحي بالزعامة. إنه شخص قوي واثق من نفسه، شخص قادر على اتخاذ القرارات بسرعة كبيرة. إنه ليس صاحب ثقافة، ولا رجل كتب ونظريات، وإنما رجل الحدس، وهو فنان المبادرات. ويستخدم المبادرة كوسيلة للتوضيح والإقناع، وفقاً لتقاليد عربية عتيقة.
وعلى سبيل المثال، عندما عاد الى غزة في اليوم الاول دعاني الى مكتبه، وكان ذلك بعد منتصف الليل. وكان على وشك إلقاء خطاب في مؤتمر صحافي. وتوجّه نحوي مباشرة، وبعد ان عانقني، كالعادة، أخذني من ذراعي الى المنصة، وأجلسني بجواره بدلا من الناطق باسمه، وهكذا شاركت معه في المؤتمر الصحافي.
وسألت نفسي لماذا يفعل ذلك، خاصة أنه لا يفعل اي شيء من دون غاية. وحسب رأيي أراد ان يقول للعالم العربي إنه في غزة، يجلس مع إسرائيليين ويريد ان يصنع السلام مع إسرائيليين. من دون كلمات، وفقط عبر بادرة. وعلى مأدبة الغداء، يختار واحداً من ضيوفه ويجلسه إلى جانبه، ويقوم بإطعامه بيديه. إنه يستقبل ضيوفه ويرافقهم حتى بوابة المقاطعة. والضيف العزيز عليه يسير معه متكاتف الأيدي، حتى متر واحد من الباب. لقد رأيته يفعل ذلك عشرات المرات.
وعرفات ودود جداً، ولا يمكن عدم الإحساس بذلك فوراً. وذات مرة انضمّ لي الكاتب يارون لوندن في زيارة اليه، وبعد ذلك قال: لم أصدق أبداً ما كتبت عنه، ولكنني أرى الآن ان كل كلمة كانت صادقة.
وهذا يفاجئ الناس لأنه يبدو غريباً. إنه شخص يحبه شعبه، وهو في نظر الإسرائيليين مغاير تماماً. إنهم لم يفهموا لماذا يحبه شعبه. إنهم يحبونه بسبب الشجاعة التي لا يمكن وصفها لديه:
إنه لم يهرب من بيروت حتى عندما أراد شارون قتله. وبعد ذلك عندما لاحقه السوريون دخل الى طرابلس المحاصرة الى ان خرج منها آخر رجاله. وهذه امور تثير الإعجاب. كما ان العامين ونصف الأخيرين اضافت الى صورته. فرجل مثله في الخامسة والسبعين يقضي عامين ونصفا في غرفتين ولا يغادرهما.
بل إن السجين المحكوم بالإعدام له الحق في ساعة يتجوّل فيها في الباحة. وهو لم يحظ بذلك، وسوف نسمع لاحقاً عن أثر سجنه على وضعه الصحي. كما ان شجاعته النادرة تبدّت في انه كان يقول أموراً، ويتخذ قرارات غير شعبية.
لقد كان اللقاء الاول معه اكثر إثارة. فقد اجتزت الخطوط مع مراسلين في بيروت. كما أنه عرّض حياته للخطر عندما التقانا. وفي كل لقاء آخر معه كان يذكر انني انا الذي عرّضت حياتي للخطر من اجل هذا اللقاء. لم نكن نؤمن انه سوف يخرج حياً من بيروت. وهو ايضا لم يكن يؤمن بذلك. وسألته الى أين سيخرج من بيروت إن خرج حياً؟ فردّ: الى الوطن. قلت له ماذا تعني؟ قال إلى فلسطين.
وبعد اثنتي عشرة سنة همس لي في لقاء مع صحافيين : "هل تذكر ما قلته لك في بيروت. سأعود الى وطني. وها قد حدث الأمر".
إنه شخص له ذاكرة عجيبة. انه يصحّحني عندما أخطئ في ارقام اعضاء كنيست إسرائيليين. انه شخص عقد العزم على السلام مع إسرائيل، وكان حازماً في شروطه لتحقيق السلام، ولم يتزحزح عنها طوال ثلاثين سنة.
*("الايام" الفلسطينية 21/12/2004)