يتمهل في الرحيل ..
بقلم: *أكرم هنية
وكأنه يتمهل في الرحيل.
وكأنه، لا يريد أن يفاجىء شعبه بانصراف متعجل، فيتمهل في الرحيل. وها هو يُجَمِّعُ من ثنايا جسده المنهك كل أسرار الصلابة الفولاذية التي خاض بها معارك شعبه، وكل مكونات الصّمود الاستثنائي الذي ميّز سيرته الفريدة... يُجَمِّعُ ما استطاع من الصلابة والصمود ليقاوم المرض، ويصارع الموت من أجل أن يكسب لنا أياماً أخرى في حياته.
أيامٌ أخرى كانت وستكون ثقيلة الوطأة علينا ونحن نتوقع الأسوأ، وتحمل في ثناياها انتظاراً مريراً نتوسل في ثناياها معجزة، أو غرائبية عرفاتية أخرى، ولكنها أيام منحتنا وتمنحنا فرصة للتأمل والتفكير والاستعداد لما بعد الرحيل.
وكأنه في ذلك المستشفى الباريسي، حيث يرقد الآن مجسداً، كعادته، فصلاً معبراً آخر من فصول التراجيديا الفلسطينية، يراقبنا، فيطلق ابتسامته المعهودة وهو يرى مظاهر الحب الغامرة تفيض عليه من أبناء شعبه. وسيجزع قليلاً وهو يتلمس في عيونهم مشاعر القلق والخوف من المجهول.
وكأنه يقرأ في هذه الأيام لافتة رفعتها فتاتان صغيرتان أمام المقاطعة تقول: لا ترحل .. نحن نحتاجك، وربما كان يقرأ مئات من مقالات التأبين المبكر التي دبجها كتّاب ومعلقون في أغلب صحف العالم، ومعظمها أنصف دوره التاريخي، وسيهزّ رأسه المرهق وهو يقرأ بعض ما كتبه وقاله منافقون، وربما تمنى لو استطاع أن يمسك بقلمه الأحمر ليؤشر على الأوراق "للتوزيع".
ولكن، وبما تبقى له من قوةٍ في جسده المنهك، سيكون متجهاً نحونا في فلسطين، يراقبنا، يريد أن يطمئن قبل الرحيل، لم يترك وصية لأن شواهد إرثه السياسي متجسدة أمامنا، لم يفرض علينا خليفة له، لكنه أقرّ آليةً تسمح باختيار الخليفة عبر المؤسسات الشرعية وصناديق الاقتراع، ولم يشأ أن يتعجل في الانصراف فيربكنا، فكان أن تمهل في الرحيل.
إن "السيد فلسطين"، الذي قاد العملية التاريخية لإعادة بعث الهوية الوطنية الفلسطينية، ولإعادة تكوين ملامح وهوية شعبٍ بعد أن شُتت في مخيمات اللاجئين وتداعيات زلزال النكبة، يراقب كيف نتصرف، وكأنه يريد أن يطمئن إلى أننا سننجح في الاختبار.
ومن المؤكد أنه يشعر بارتياح بالغ، وهو يرى المؤسسات والأطر التي قادها تعمل بكفاءة تُدهش مَن كانوا يتمنون أو يصدقون أن الشعب الفلسطيني سيغرقُ في أُتون حروب أهلية صغيرة وصراعات حول السلطة، ففوجئوا بالمؤسسات تعمل بفعالية، وتضع تفاصيل عملية انتقال سلس للسلطة وفق القانون وبمواصفات ديمقراطية متقدمة.
ومن المؤكد أن رجل الوحدة الوطنية بامتياز الذي كان يسعى في كل لحظة لتأمين أوسع اطار ممكن من الاجماع والوحدة الوطنية، دون الوقوع في أسر الشلل والعجز عن اتخاذ القرارات التاريخية في اللحظات الصعبة، سيكون مرتاحاً وهو يرى الشعب الفلسطيني بكافة قواه وفئاته وتياراته، ينصهر في لحظة توحد عنوانها "حماية الوطن وتعزيز الوحدة الوطنية".
إن القائد الذي أدار على مدى نصف قرن معركة شعب ضد المستحيل، فقاده من تِيه الشتات والتشتيت والاحتواء والوصاية وشطب الهوية الوطنية والسياسية، إلى أفق الحضورالساطع لشعب يقاوم من أجل الحرية والاستقلال، واضعا قضيته على رأس جدول أعمال العالم، وصولاً لتكريس نواة كيانه السياسي فوق أرض فلسطين، من المؤكد أنه يشعر بالاطمئنان وهو يرى التأكيد يتجدد على مواصلة مسيرة الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه الوطنية الثابتة، والتمسك بالاستمرار في عملية السلام وفق مرجعيات الشرعية الدولية.
وكأنه، حيث يتحدى الموت ويراوغه، كما فعل مع اعدائه طوال حياته، يراقبُنا ويتابع ما نفعل، وكأنه في هذه الساعات يستمد اليقين شيئاً فشيئاً بأن بإمكانه أن يطمئن، وأن يرحل، وكأنه في هذه الساعات يرنو بعينيه إلى فلسطين، بوصلته وقبلته الدائمة، حيث ستشرق شمس رام الله الدافئة فوق ضريح خارج غرف المقاطعة الباردة الرطبة الموحشة، وحيث ستطل أنوار مآذن مساجد وكنائس القدس على ضريح رجل أكبر من الكلمات، وصاحب سيرة أقرب للأسطورة، رجل قاد قضية الشعب الفلسطيني من المنافي إلى بوابات المدينة المقدسة، وأصبح يراها ونراها قريبة، وقريبة جداً.
*("الايام" الفلسطينية 11/11/2004)