أبو عمّار و حلـم الدولة الـمستقلة
بقلـم : *د. أحمد مجدلاني
دفن الفلسطينيون في رام الله "الـمقاطعة" زعيمهم الذي لـم يعرفوا غيره طيلة العقود الأربعة الـماضية، فلقد كان الرئيس أبو عمار شخصية مثيرة للجدل والنقاش، إلا أنه بحق، ويسجل له، أنه أبو الوطنية الفلسطينية الجـديدة، وهو الذي استطاع بدأب ومثابرة كان يحسد عليهما إعادة إحياء الهوية والشخصية الوطنية الفلسطينية بعد نكبة الشعب الفلسطيني العام 1948، وخسارته لأرضه وقيادته السياسية، وبالتالي هويته الوطنية الـمميزة، وتقاسم تمثيله أو اندماجه وتذويب شخصيته في البلدان العربية الـمجاورة.
لقد حمل عرفات قضية شعبه وحقه في العودة وتقرير الـمصير وإقامة دولته الـمستقلة، ووعى مبكرا ووضع في الـمقدمة منها استقلالية قراره الوطني كعامل مميز لهويته الوطنية الـمستقلة، وليس كعامل انعزالي عن محيطه العربي والقومي وبعده الأممي، ومن هنا كانت قراءته الـمبكرة أيضا لعوامل الجغرافيا وتأثيراتها على القرار، فحاول ونجح أحيانا كثيرة وأخفق أحيانا أخرى في الحفاظ على قراره الوطني الـمستقل رغم هيمنة الجغرافيا ليصنع في التاريخ مسيرة تميزت دوماً وأبداً أنها تمتلك الرؤية نحو الهدف وهو الحرية والاستقلال وبناء الدولة.
برحيل الزعيم والقائد الـمميز الذي عرفه الفلسطينيون أينما كانوا ولـم يعرفوا غيره منذ غياب قيادة الحاج أمين الحسيني، تكون قد طويت صفحة من تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث وفتحت صفحة جديدة، لكن ومهما كانت وأياً يكن من يتولى قيادة دفة القيادة فإنه لن يستطيع محو آثار أو تجاوز الـمرحلة السابقة التي أسس لها ياسر عرفات، فبصمات ياسر عرفات على القضية الفلسطينية وعلى الـمكاسب التي حققتها خلال السنوات الثلاثين السابقة، وتحديدا منذ انتزاع الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب العربي الفلسطيني لا يمكن أن تمحى، كما هو الحال في إنجازه الكبير في إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض الفلسطينية لأول مرة في التاريخ الحديث كمقدمة لإقامة الدولة الـمستقلة.
هذه الإنجازات السياسية الـمهمة كانت نتاج إصرار وثبات ومتابعة، كانت وليدة سياسة واقعية سجلت لهذا الرجل والتي ربطت وباستمرار بين التكتيك والهدف النهائي للحركة السياسية وهو الدولة الـمستقلة، فلـم يكن يريد الثورة من اجل الثورة، ولا من اجل أن يسجل التاريخ بطولات له ولشعبه، بل من اجل تحقيق هدف الحرية والاستقلال والدولة الـمستقلة. ورغم الانتقادات الشديدة لواقعيته السياسية وأحيانا كثيرة لبراغماتيته غير الـمفهومة أحيانا أخرى، فإنه لـم يقع في الإفراط والتفريط بحقوق شعبه، وكان له ما كان في قمة كامب ديفيد الثانية صيف العام 2000م . حيث قال (لا) في زمن لا يستطيع أن يقول احد (لا) للقوة الـمهيمنة والـمتفردة في قيادة العالـم، مع علـمه الـمسبق أيضا لثمن هذه الـ (لا) لكنه قالها حتى لا يقع في خانة التفريط ويدخل التاريخ من أبوابه، وآثر أن يدخله من بوابة من سلـّم الأمانة لغيره والقضية باقية وحية وملك للأجيال القادمة.
لـم يتخلَّ ياسر عرفات عن حلـمه بإقامة الدولة الـمستقلة، حتى في مماته؛ فقد حصل على مراسم التشييع في فرنسا الـمخصصة لرؤساء الدول، وشيعه قادة العالـم العربي والـمجتمع الدولي في القاهرة كرئيس دولة له من الـمهابة والاحترام والتقدير مما لا يقل عن مهابته وتقديره كزعيم لحركات التحرر الوطني في العالـم وكحامل لراية الثورة العالـمية التي تسلـمها من كاسترو العام 1975م.
لقد خدم ياسر عرفات حتى في مماته قضية شعبه كما خدمها وأفنى حياته في سبيلها في حياته، فالتشييع الـمهيب والـمشاركة الدولية والعربية بجنازته في القاهرة كانت بالقدر الذي كرمته كقائد ورئيس للشعب الفلسطيني أن كرمت الشعب الفلسطيني أيضا، وأكدت مجددا أن قضيته رغم كل محاولات الحصار والتهميش ما زالت حية وباقية ومطروحة على الأجندة الإقليمية والدولية.
نعم، لقد دفن عرفات في الـمقاطعة التي دافع عنها وصمد فيها دفاعا عن قراره الوطني الـمستقل، دفن عرفات في الأرض التي أحب أن يعيش فيها ويموت من اجلها ويدفن فيها، وبدفنه تكون قد طويت صفحة من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال التام. إلا أن هذه الصفحة والـمرحلة الجديدة التي فتحت بعد غيابه لن تكون بمنأى عن تأثيره وبصماته الواضحة عليها.
فمهما قيل ويقال الآن بأن عهدا جديدا سوف يفتح وان هناك آفاقا لـمرحلة من السلام سوف تتحقق باعتباره كان العقبة، فإن الذهاب في مجاراة هذه الأوهام ليس ظلـما للرجل في قبره بقدر ما هو مجافاة للحقيقة والواقع ووقوع في فخ الكذبة الكبرى التي روّج لها شارون بدعم مكشوف من الرئيس بوش، وتحول الرجل في عهديهما من حامل لجائزة نوبل للسلام إلى إرهابي وعدو للسلام العالـمي.
إن نظرية العقبة روجت لها كل من إدارة بوش القديمة الجديدة وحكومة شارون، بقدر ما هي كذبة كبيرة، كانت مكشوفة في حياة ياسر عرفات ستكون كذبة اكبر ومعرضة للفضح أكثر وأكثر في غيابه، فلـم يكن ياسر عرفات غير ذي صلة بالنسبة لبوش وشارون لشخصه بل للـموقف الذي جسده في قمة كامب ديفيد الثانية وبعدها، ولـم يكن إرهابيا إلا بقدر رفضه التنازل عن حقوق شعبه ومقدساته. لقد (رحل السبب) الآن الذي كان بوش وشارون يتذرعان به لعدم الوفاء بالتزاماتهما تجاه الشعب الفلسطيني، وسيكتشف العالـم، كما كنا نرى في حياته، انه كان الذريعة وليس السبب، فالسبب بالأساس هو محاولة فرض حل تصفوي لقضية الشعب الفلسطيني، هذا الحل كان مرفوضا من قبل عرفات لذلك كان غير ذي صلة، والآن ما الذي تغير هل الذريعة أم السبب؟ وإذا كان كذلك فلـماذا يمدد الرئيس بوش موعد إقامة الدولة الفلسطينية من العام 2005 إلى العام 2009م، علـماً أننا لـم ندخل العام الجديد ولدينا متسع كبير من الوقت لتحقيق التزامه ووعده، ولـماذا يتراجع عن التزامه الذي قطعه قبل نحو العامين إذا كان السبب قد رحل فعلا، ولـماذا يشجع شارون على الـمضي قدما بخطته للفصل الأحادي الجانب التي كانت فلسفتها مبنية أساسا على عدم وجود شريك فلسطيني غير ياسر عرفات الـمتهم بالإرهاب والفساد؟ لقد رحل ياسر عرفات الذي كان السبب بنظرهم وصار بالإمكان التعامل مع قيادة فلسطينية قديمة وجديدة في آن معا ومعـروفة لديهم جيدا فهل ستزول الذريعة أيضا؟
إن مجاراة بوش وشارون وتحميل الـمرحلة السابقة مسؤولية الجمود السياسي هي بالقدر الذي يحمل ظلـما للراحل، تحمل مجافاة للحقيقة التي يعرفها الجميع بمن فيهم شارون وبوش، فعرفات لـم يكن الـمشكلة بل هو موقف عرفات رغـم واقعيته وبراغماتيته.
إن الوفاء للراحل هو التمسك بما اعتبره أساسا ونبراسا لحركته السياسية هدف الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الـمستقلة، واستقلالية القرار الوطني الفلسطيني كشرط لازم لها والواقعية السياسية بأبعادها وحدودها الـمعروفة كأداة للتحرك والعمل، ان الوفاء الحق للرجل الراحل هو بتحقيق حلـمه حلـم الدولة الـمستقلة؛ ذلك الحلـم الذي راوده في حياته وودعه في مماته
*("الايام" الفلسطينية 12/11/2004)