أحمد الطيبي

2015-12-09


الكوفية التي لن تسقط

بقلم:د. أحمد الطيبي

 

قبل عشرين عاماً، حين دخلت على أبو عمار في أحد مكاتبه المتواضعة في تونس في الساعة الثانية صباحاً، تناول ساندويشاً من تحت مقعده، قسمه نصفين وقدم لي أحد النصفين قائلاً: "هذا هو عشائي يا أحمد".

هكذا كان متواضعاً، قابلاً بالقليل والزهيد، مقتسماً ما له مع غيره أبعد ما يكون عن ممارسات وطقوس الزعيم الأوحد.

على مدى عشرين عاماً من المعرفة الشخصية، كان الرجل الذي أشغل الناس وأشغل الدنيا مليئاً بالدفء والأبوة. لأنه لم يكن مجرد ذلك (الرئيس) أو (القائد)، لقد كان بالنسبة لشعب بأكمله (أبو الأمة)، الرجل الذي كان رئيساً لكل اللجان وأميناً عاماً لكل الهيئات وقائداً لكل الوحدات حتى غطى أحياناً بظله هذا على المؤسسات واللجان ذاتها.

كان ذكياً، وكان حكيماً، يمارس المسؤولية، وكان جباراً يتحمل الألم. كان فلسطينياً يعيش المأساة.

ظلمه النظام العالمي الجديد فأجاز حصاره، وأكد عزله، ودعم سجانيه بحجة (الدفاع عن النفس)، وألصقوا به تهمة "الارهابي" بدلاً من المقاوم، والقاتل بدلاً من المناضل، لأنه رفض الاستسلام حتى لو كان استسلاماً (مشرفاً) كما اراد له بعض العرب..

لقد أراد عرفات أن تكون له دولة كما هي الدولة.. ليصبح شعبه شعباً كما هي الشعوب.. عادياً بلا حاجز قلنديا وبلا الاباتشي.. بلا حاجز ايرز وال الاف 15 ..

أكد للمحتل أنه كذلك ورفض الخضوع لشروطه وكشف عورته أمام العامل.. فاضحاً شروطه للتسوية صارخاً بأعلى صوته (لا) فاهتزت أكواخ (كامب ديفيد) ليغضب منه العرب والعجم..سقط في امتحانهم ونجح في امتحاننا جميعاً.

حمل كفاحية سامية وروح نضال عالية ولكنه كان ممعناً في الواقعية وحاملاً للمسؤولية.. أحب الرموز لأنها ملأت عليه الدنيا. شمخت كوفيته فوق هامته وبدلته (الكاكي)..

كنت أحد اولئك الذين دخلوا المقاطعة عليه بعد فك حصاره الأول، لمست كوفيته قائلاً: هذه كوفية العرب.. إن سقطت سقط العرب، فانفرجت أساريره وكأنه طفل وديع قد انتصر..

كان صدره يتسع حتى لأولئك الانتهازيين الذين يقدحون ليدخلوا بلاط الملوك والأمراء ليحوزوا على (المعلوم) من هناك ثم من هنا.. كان يدرك كنه هؤلاء ليقول: "بهمش الله يسامحهم". أعتقد (خاطئاً) أنه بذلك قد يحتوي الصالح والطالح منذ بيروت مروراً في تونس وانتهاء في رام الله على الطريقة (العرفاتية). يغيب عرفات ولن تغيب قضيته يترجل القائد ولا ترتاح فلسطين..

شرفتني يا أبو عمار بمعرفتك.. شرفتني بالعمل الى جانبك مستشاراً، وبأكل طعامك وبالهمس على أذنك.. شرفت شعباً بأكمله، أنت رمزه.. شرفت أمة بأكملها، فكنت حامياً لبوابة قضيتها الأولى، أحبوك لأنك فلسطين.. ونصبوا لك العداء لأنك فلسطين، فأحبتك فلسطين.. 

اغتالوا قضيتك عندما غابوا عنك. ليغيبوك.. تحية لك من ابن لا يريد رثاءك.. أيها الشهيد الشاهد.

من الناصرة الأبية.. من الجليل الأشم.. من الكرمل الأخضر.. من عكا وحيفا ويافا واللد والرملة.. من طيّون وادي عارة.. من المثلث الصامد ومن النقب الشامخ نقول لك: 

تحية لك يا أبي.. يا صاحب الكوفية التي لن تسقط أبداً..

تحية لك أيها الريح التي حركت الجبل.

"من كتاب :ياسر عرفات : وتبقى فلسطين "

صامد الاقتصادي  العدد 139-140

 2005