حكايتي مع بطلي وأخي الحبيب "أبو عمار"
في الجزائر – بلد المليون شهيد
-------------------------------------------
بدأت حكايتي مع أخي الحبيب القائد الشهيد ياسر عرفات منذ اكثر من 40 سنة، اكتشفت خلالها عظمة هذا الرجل وتميزه. عرفته في أحوال الشدة والتألق وكنت أراه دوماً الإنسان القوي المتواضع والشجاع الجريء ببعد نظره والمقاتل دوماً والذي لا يستسلم من اجل فلسطين.
ومن هنا بدأت رحلتي معه... كنت قد بدأت في العام 1963 عملي رئيساً لفرع شركة "فيليبس بتروليوم" الأميركية في الجزائر، ... وكفلسطيني عاشق لوطنه كنت متأثرا بأجواء اللجوء ومآسي الشعب وآماله بالعودة والتحرر، كنت أسعد واهتم بأي شيء في هذا المجال.. وفي الجزائر تعرفت إلى الشهيد خليل الوزير "أبو جهاد" في نفس العام 1963 ، وكان قد جاء ليتولى مسؤولية مكتب حركة التحرير الوطني "فتح" في الجزائر وهو "عريس" جاء مع زوجته "السيد انتصار الوزير - ام جهاد".
وتوطدت علاقتي الشخصية والأسرية مع "أبو جهاد" وكنت أرى فيه التزاماً مطلقا بفلسطين وبقضية شعبها.. وكنت أعطي "أبو جهاد " كل ما يريد لدعم العمل الوطني وعمله في الجزائر، وبدأت احمل رسائل ووثائق ومطبوعات وجوازات من "أبو جهاد" إلى عدة دول في العالم، فقد كنت أسافر كثيرا بحكم عملي خاصة إلى عمان وبيروت وباريس...
وفي احد الأيام وبينما كنت جالساً في مكتبي دخل " أبو جهاد" ومعه رجل بملابس مدنية فقال لي "أبو جهاد": أعرفك إلى ياسر عرفات.. لم أرتح له في البداية لان لهجته كانت مصرية أكثر منها فلسطينية، ويبدو أن عرفات شعر بذلك فقال لي: "شو القصة.. مالك مش مرتاح". فأجبت بأنني تذكرت أحد أبناء عمومتي الذي زار القاهرة لمدة أسبوع وعاد إلى نابلس ليتحدث بلهجة مصرية طوال حياته... فضحك عرفات وقال لي: لا ... لا ... الحكاية أنني منذ طفولتي أعيش في مصر... كان عرفات قد تقبل ملاحظتي بسعة صدر ولطف .ثم قدما الى بيتي في الجزائر .. ونشأت صداقة من نوع خاص معه.. صرت أعتبره الأخ والصديق ... لكن في ذات الوقت "القائد".. فبعد تعرفي إليه والاستماع لما كان يقوله شعرت بأنه رجل ملتزم بقدر التزام "أبو جهاد"، وبأن فلسطين تسكن عقله وقلبه.
كان "أبو جهاد" قد اخبر "أبو عمار" أن منيب المصري يساعد فتح بكل ما عنده من امكانيات في الجزائر ... لكن حين تحدث عرفات معي عن ذلك، قلت له إن حزبي هو فلسطين. وفي ذلك الوقت كانت "فتح" و فلسطين و"أبو عمار" بالنسبة لي شيئا واحدا من الصعب تجزأته.
وكنت أسمع من ياسر عرفات كل ما أتمنى أن اسمعه عن فلسطين ... فزاد إعجابي به وزادت محبتي واحترامي للرجل.
ذات يوم في العام 1964 دخل "أبو عمار" و"أبو جهاد" إلى مكتبي وقالوا أن الزعيم الوطني الفلسطيني احمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية موجود في الجزائر، وأنهما يرغبان بلقائه وبأن أكون معهما ... ورافقنا أيضا في اللقاء مع الاخوة الشقيري حمدان عاشور ومحمد أبو ميزر.
وفي اللقاء مع الشقيري تحدث "أبو عمار" وطلب أشياء محددة من الدعم المعنوي والمادي ... وكان يتحدث بحرارة وحماس، وما كان يتحدث به عرفات كنت متعطشاًً لأن اسمعه .... احتد النقاش وقال "أبو عمار" في ختامه للشقيري .. "خلال العشر سنوات على الأكثر ستسمع صوتي وكلامي هذا من أعلى المنابر في العالم كله عن القضية الفلسطينية، نحن ثوار ولدينا برنامج نضالي.
في تلك اللحظات خالجني شيء من الشك فيما يقوله ياسر عرفات.. لكن تأكدت بعد عشرة سنوات على تلك الحادثة أن ياسر عرفات كان يتحدث برؤية عميقة وببعد نظر عندما رأيته يوم 13/11/1974 يخطب خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وزاد إيماني يومها بان هذا الرجل يملك رؤية وحدساً وبعد نظر وخصائص لا تتوفر لغيره.
في الأردن
-----------
دارت الأيام وتطورت الأحداث في السنوات التي تلت انهاء وظيفتي بالجزائر، فذهبت الى بيروت في العام 1965 لاعمل كرئيس اقليمي لشركة فيليبس للبترول حيث تواصلت علاقتي القوية معه ومع "أبو جهاد". ثم في الأردن عندما عملت كوزير للاشغال العامة ووقعت الأحداث المأساوية والاشتباكات التي توجت بكارثة أيلول 1970 وكان خروج المقاومة من الاردن الى لبنان، كنت خلال ذلك كله على علاقة متواصلة مع "أبو عمار" وحتى أن أصدقاءه ورفاقه كانوا يصفونني بـ "العرفاتي" ويقولون: جاء "العرفاتي"،... ذهب "العرفاتي"، وكان البعض يعايرني ويلومني بأنني موال بشكل مطلق لعرفات، ولكن ذلك لم يزعجني بل كان يسعدني ،ولم أكن أخفيه، نعم كنت أحب الرجل وأؤمن بأنه القائد و"البطل" ولذلك لم أكن أتردد في أن أكون صادقاً معه دائماً، وأن لا أتأخر عليه بأي نصيحة بأمانة، وأناقشه بقضايا كثيرة، وكنا نختلف ولكن نتفق،.كانت ثقتي به وبالتزامه بقضية وطنه وشعبه ثقة مطلقة ...
وبعد احداث ايلول، كلف الملك حسين وصفي التل بتشكيل الحكومة الأردنية، وعرض وصفي التل والدكتور كمال الشاعرعليّ تولي وزارة الأشغال العامة لإعمار ما خربته الاشتباكات والمعارك في عمان والأردن في الأشهر السابقة خاصة في أيلول ... طلبت مهلة للتفكير وقررت مشاورة عرفات في الأمر، وحين عرضت الأمر عليه بإطلاع بعض الأصدقاء والمقربين سارع إلى القول: لا تتردد يا (أبو ربيح) ـ منيب- وأيده "أبو إياد" و "أبو جهاد" في وجهة نظره رغم اعتراض كثيرين، وفعلاً... عينت وزيراً للأشغال العامة، وكان شرطي ان لا آخذ راتب كوزير.
وبدأت مهمة إعادة البناء والإعمار في العاصمة وغيرها من مدن الأردن وفي المخيمات... وكان برنامج عملي مقسما إلى قسمين: الأول يبدأ في السابعة صباحا في مكتبي بالوزارة وينتهي في الثالثة عصراً. والقسم الثاني كان يبدأ بعد ذلك بلقاءات ومشاورات كانت تدور في بيتي في عمان ويحضرها ياسر عرفات وخليل الوزير ورفاق آخرون من قيادات الثورة، ويحضر بعضها أيضا رجال الحكم في الأردن وشخصيات فلسطينية وعربية منهم المرحوم ابراهيم بكر. وقد تعرف وصفي التل الى ياسر عرفات في بيتي، وكنا نتناقش ونعمل على حل المشاكل والتجاوزات... كانت المواجهات الكلامية والحوارات بين عرفات ووصفي التل تمتد إلى الساعة الثانية أو الثالثة فجر اليوم التالي لتنتهي بتناول وجبة من البيض المقلي أو الكنافة النابلسية، وقد نام عرفات ووصفي التل عدة ليال في سريرين متقابلين في بيتي.
كما جمعت بين المرحوم جلالة الملك حسين والمرحوم ياسر عرفات في لقاء في بيتي.
ومع مرور الأيام وتوالي الأحداث زادت علاقتي قوة وتوثقاً مع ياسر عرفات... أصبحت أحبه وأحترمه أكثر... أصبحت ألمس أكثر فأكثر بعد نظره وسعة أفقه وحكمته وبساطته... كان يملك قدرة عجيبة على احتواء الناس وإشعارهم بخصوصيتهم وبتميز علاقته مع كل فرد... كان ديمقراطيا يستمع الى الجميع ويناقش... لكنه صاحب القرار. ولم يكن ليعتمد على شخص واحد في أي موضوع... كان يمد خيوطاً عديدة خمسة... أو عشرة أو خمسين... ويجمعها كلها بيده. وكان "يبالغ" أحيانا... أو "يخفف" و"يهون" أحيانا أخرى في بعض الأمور والمسائل، كانت خدمة للقضية التي سكنته – كان يعمل ليلا نهارا لأجلها.
وجاء تطور الأحداث في الأردن على عكس ما يريد عرفات، وتدهورت الأوضاع أكثر... وفي غمرة ذلك عرض عليّ المرحوم وصفي التل بناء على طلب من الملك حسين أن نحضر الاخ ابو عمار لنصالحه مع المرحوم الملك حسين.
وفعلاً توجهت مع المرحوم عبد المجيد شومان برفقة سفير المملكة العربية السعودية الاخ أحمد الكحيمي، وفي سيارته، إلى منطقة أحراش عجلون لمقابلة عرفات والسعي لإقناعه بالمصالحة مع الملك حسين... كان أبو عمار محاصراً و معه عدد من رجال المقاومة الفلسطينية في جبل الأقرع منطقة جبال عجلون. بعد وصولنا دخلنا الى احد الخنادق تحت الأرض ـ التي كان "أبو عمار" موجوداً فيها، وأقنعناه بالخروج الى "الشمس"... أبكانا" أبو عمار" وهو يروي فظائع المعاناة والمآسي التي شهدها في المخيمات وبين الفدائيين، لكنه أبدى استعداداً للمصالحة مع الملك حسين والذهاب الى عمان.
رافقنا "أبو عمار" في سيارة السفير أحمد الكحيمي ومررنا بثلاثة حواجز عسكرية أردنية ...كدنا نقتل عند أولها حيث صوب جندي أردني غاضب سلاحه على ابو عمار وأوشك أن يطلق النار، لكن ابو عمار تحدث معه ومع الجنود الآخرين عند الحواجز التالية بلهجة حازمة آمره بقوله: التزموا .. أنتم تتكلمون مع ياسر عرفات القائد العام للمقاومة (فتح) ... وفعلا كان الجنود يلتزمون ويتراجعون، وعند كل حاجز كنت أشعر أن نهايتنا قد حلت وكنت أقول "خلص رحنا".
وطلب أبو عمار قبل التوجه إلى عمان أن ننقله إلى درعا ليحضر بعضا من ملفاته، وتوجهنا فعلا إلى درعا. انتظرنا نحو ساعتين لكن ياسرعرفات قال أن الوقت أصبح متأخر وأنه يفضل أن يتوجه إلى عمان في اليوم التالي، وقال لي: "تعال بكرة".
في اليوم التالي ذهبت إلى درعا لاصطحاب عرفات إلى عمان، لكنه قال لي "إسمع يا منيب، أنت أنقذت حياتي حين أخذتني في سيارة السفير الكحيمي من جبال عجلون ـ فقد قصف الجيش الأردني الموقع بعد مغادرتنا واستشهد عدد من الفدائيين ـ وإذا ذهبنا إلى عمان فهل أنت مستعد لتتحمل دمي؟" فأجبته فورا:لا.
وتابع "أبو عمار": أنا لن أذهب إلى عمان كمطارد وهارب ... وإذا أردت الذهاب إلى عمان فيجب أن يستقبلوني فيها كرئيس دولة.
وهنا لا بد لي من الإقرار مجددا ببعد نظر وسعة أفق وتميز ياسرعرفات بل وقدرته على استشراف المستقبل.. فعندما عاد بعد ذلك بسنوات إلى عمان استقبل فيها كرئيس دولة، وذلك يوم وصلها للمشاركة في تشييع جنازة رئيس وزراء الأردن الشريف عبد الحميد شرف في العام 1980.
وتذكرت يومها ما كان "أبو عمار" قد أفضى به إلي في درعا قبل نحوعشر سنوات... فزدت قناعة على قناعتي بهذا "القائد" و"البطل" الذي كنت اعتقد انه يجب أن لا يحاسب لأنه "البطل".
واستقلت من مجلس الوزراء الأردني في أيار/مايو 1971 بعد عشرة أشهر على دخولي الوزارة وذلك بعد أن شاهدت رجال المقاومة الفلسطينية يستسلمون للجيش الإسرائيلي عبر نهر الأردن. لم تكن الاستقالة سهلة، لان دولة المرحوم وصفي التل اصر على بقائي في الوزراة .... لكني أصريت على ذلك، والبعض همس في اذن المرحوم وصفي ان يعدل الوزراة وبالتعديل أخرج من الوزارة، ولكنه اصر ان لا اخرج بالتعديل ولكن بالاستقالة. وقدرت له ذلك لأنه كان في ذلك الاوقات قلة جدا يجرؤون على تقديم استقالتهم، فالوزير يأتي بشخطة قلم ويذهب بشخطة اخرى.
في لبنان
-------------
تواصلت علاقتي مع "أبو عمار" بعد انتقاله إلى لبنان، وكنت أتردد كثيرا على بيروت، وعايشت لحظات التألق والنجاحات التي كان يسجلها على صعيد القضية الوطنية الفلسطينية، خاصة عندما وقف يوم 13/11/1974 على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وألقى بكل قوة وثقة واقتدار خطابه الشهير "غصن الزيتون والبندقية". وتذكرت ما قاله للمرحوم أحمد الشقيري عندما لقيته في الجزائر في العام 1963.
وبقيت صداقتنا وعلاقتنا على قوتها ومتانتها، وكنت دائما جاهزا لتلبية أي طلب يطلبه مني وتنفيذ أي تكليف أو أمر يصدره لي. كنت أراه قائدا ملهما وأسمع كلامه. ..وبالنسبة لي كانت أخطاؤه تتلاشى أمام ما يمثله ويجسده من التزام واندفاع وإخلاص في سبيل القضية الفلسطينية، وأيضا لما كانت نفسه تنطوي عليه من خصال إنسانية رائعة ، ومنها بساطته في العيش، وداعته ورقته، وتواضعه رغم صلابته وعزيمته وقوته في قيادة الرجال ومواجهة المواقف والأحداث.
في تونس والعراق والبلاد العربية والاوروبية والافريقية
----------------------------------------------------------------------------
بعد خروج ياسر عرفات وقوات الثورة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، فكرت مع عدد من رجال الأعمال الفلسطينيين في التحرك للقيام بما يمليه الواجب لمساعدة الشعب الفلسطيني وبما يخدم القضية الوطنية ،فانبثقت مؤسسة التعاون التي أسستها مع عبد المجيد شومان وحسيب الصباغ وعبد المحسن القطان وشخصيات فلسطينية اخرى، وذلك في لندن مطلع العام 1983 بهدف دعم وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته، وبهدف تنشيط العمل السياسي الفلسطيني في الولايات المتحدة والغرب.
واعتقد البعض من حول ابو عمار حينها أن مؤسسة التعاون قد تكون من الصيغ القيادية البديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووصلت هذه الشكوك إلى ياسر عرفات لكننا سرعان ما أكدنا له توجهاتنا وتمسكنا القوي بالمنظمة وبقيادته، فاطمأن لنا ولم يتأخر عن توفير أي دعم معنوي للمؤسسة، وكنت ازوده بالتقارير التي تصدر منها. وفعلا نشطت مؤسسة التعاون في العمل وخاصة في الأرض المحتلة في العام 1967، وكذلك في الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1948 "داخل الخط الأخضر".وكنت أطلع ياسر عرفات على عملنا وإنجازاتنا.
واذكر أنني عندما شعرت بان ياسر عرفات والمنظمة في وضع "صعب" سياسيا وماليا خاصة في 1986 و 1987، قمت بالتعاون مع الأخ أحمد قريع "أبو علاء" بتنظيم أول مؤتمر اقتصادي فلسطيني عالمي، عقدناه في تونس تحت رعاية ياسر عرفات. كنت أشعر أيامها أن ياسر عرفات بحاجة إلى هذا الدعم المعنوي والسياسي والاقتصادي، وأنه جاء في وقته لتأكيد التمسك به كقائد للشعب الفلسطيني. وجاء رجال الاقتصاد من جميع انحاء العالم من البلاد العربية والاوروبية والامريكتين (الشمالية والجنوبية).
وكنت ألتقي ياسر عرفات كثيرا في تونس وفي عواصم أخرى، ورافقته في رحلته الشهيرة إلى جنيف في أواخر العام 1988 حين انتقلت الجمعية العامة للأمم المتحدة من مقرها في نيويورك إلى مقرها الثاني في جنيف للاستماع إلى ما سيقوله القائد ياسر عرفات بخطابه بعد أن رفضت الحكومةالأميركية منح الرئيس عرفات تأشيرة دخول إلى نيويورك لمخاطبة الأمم المتحدة هناك.
وحضرت وشاركت في الاتصالات التمهيدية لبدء الحوار الأميركي مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتابعت عن قرب القائد العظيم وهو يخوض غمار السياسة والدبلوماسية على الساحة الدولية بكل اقتدار لخدمة شعبه وقضيته. ونصحته في تلك المرحلة بأن يكثر من التقاط الصور التذكارية مع كل شخص .... أي شخص يزوره أو يلتقيه وذلك للمساعدة في نشر الوجه الإنساني والحضاري لياسر عرفات، قائد الشعب الفلسطيني،على أوسع نطاق ممكن، خاصة في العالم الغربي.
وفي هذا الإطار أيضا أحضرنا إلى تونس كاتبين اميركيين بارزين هما: جون وجانيت ولاش ذلك لكتابة سيرة ياسر عرفات ونشرها في الولايات المتحدة والغرب.
ومن المواقف التي أعتز بها في علاقتي مع ياسر عرفات انه طلب مني بعد انتهاء أزمة غزو العراق للكويت في العام 1991 المساعدة في تحرير 100 مليون دينار كويتي "نحو 360 مليون دولار" من أموال المنظمة أو فتح كانت جمدت في ذلك الوقت، وكانت فتح ومنظمة التحرير في وضع مالي صعب جدا في تلك المرحلة. وعندما نجحت في تحرير ذلك المبلغ فرح ياسر عرفات وشكرني كثيرا وأشاد بذلك أمام القيادات الفلسطينية،وكنت سعيدا لأنني نفذت طلبه بنجاح ،وكنت سعيدا أيضا لأنني نجحت في إسعاده ودعمه معنويا علاوة على المبلغ نفسه الذي كان في مسيس الحاجة إليه. وكان يردد أمام الناس الذين يلتقون به "منيب انقذ حياتي في الاردن وبقي معنا في جميع منعطفات القضية الفلسطينية وساعد في وضعنا المادي منه ومن مصادر اخرى، ولم يطلب أي شيئ له شخصيا مني".
مع نيلسون مانديلا
-------------------------
كنت في لندن في العام 1994 عندما تلقيت اتصالا هاتفيا من ياسر عرفات أثناء وجوده في زيارة لجنوب إفريقيا ،ودعاني ياسر عرفات للحضور إلى تونس ليراني هناك بعد عودته من جنوب إفريقيا ، واخبرني انه يريد أن يشكل أول حكومة فلسطينية بعد اتفاق اوسلو لتتولى قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية. ثم أعطى سماعة الهاتف لرئيس جنوب إفريقيا المناضل الكبير الزعيم نيلسون مانديلا ليتحدث معي. كان عرفات يعرف أنني كنت أدعم حزب نيلسون مانديلا "ANC" ، هذا الإنسان العظيم، طوال وجوده في سجن النظام العنصري، وأراد مانديلا أن يشكرني وان يتعرف إلى الرجل الذي كان يتبرع لحزبه. وفعلا التقيت مانديلا بعد ذلك في لندن وأصبحنا صديقين.
تشكيل الحكومة الفلسطينية
---------------------------------------
وصلت إلى تونس بعد أيام من طلب ياسرعرفات فوجدته منهمكا في تشكيل الحكومة، كانت صحيفة "القدس العربي" اللندنية نشرت يومها أن ياسر عرفات يرشح منيب المصري لرئاسة الحكومة، ولم يكن لدي علم بالأمر ولم يفاتحني "أبو عمار" به.
كان "أبو عمار" يسجل الأسماء ويقدم له المستشارون والموجودون اقتراحات ، وسمعت أحدهم يقول له: هذا من الضفة .. وفلان من غزة .. فلم يعجبني ذلك .
وتحدث "ابو عمار" إلي قائلا: فيصل الحسيني وحنان عشراوي ذكروا لي اسمك يا "ابو ربيح" لتكون نائبا لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، واكون مسرورا لكي تكون نائبا لي. وعندما سمع أخ من غزة بذلك قال له: لازم يكون نائب آخر لك من غزة، فانزعجب من ذلك وقلت له: انني اخدم بلدي في أية وظيفة او مركز، فقال لي: رجاءا ان تكون وزير دولة للشؤون المالية والاعمار، فوافقت وكان ذلك وزير بلا معاش شهري كشرط مني كما فعلت في الاردن. واقترح ياسر عرفات علي مسمى وزير دولة لشؤون المال والبناء. فشكرته على ثقته وقلت له: أنت تعرف يا "أبو عمار" كم أحبك وكم أعزك .. وأريد منك إعفائي من الوزارة ، فقال لي: سيبقى اسمك وزير لسنتين، فوافقت على هذا الحل لمحبتي واحترامي لياسر عرفات.
العودة إلى فلسطين
----------------------------
بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994 عدت إلى أرض الوطن وكنت احد مؤسسي شركة فلسطين للاستثمار والاعمار "باديكو" وغيرها من الشركات للمساهمة في إعمار الضفة وغزة، وكان عرفات سعيدا ومشجعا لما نقوم به لهذه الشركة.
وخلال السنوات التي تلت تواصلت علاقتي القوية مع "أبو عمار" وكنت كعادتي لا أتاخر عن تنفيذ اية مهمة ولا أتوانى عن تقديم اي نصيحة أو معلومات او امكانيات، فقد بقي ياسر عرفات بالنسبة لي كما كان دائما علاوة على الأخوة والصداقة القوية هو "القائد" و"البطل".
وقد عرض ياسر عرفات علي منصب رئيس الوزراء في رام الله في العام 2003 في غمرة الحديث عن إدخال إصلاحات على السلطة، وقال أبو عمار أمام بعض الاخوة في القيادة الفلسطينية أنا أرشح منيب المصري "حريري فلسطين" كما وصفني يومها، وقال ذلك لممثل اللجنة الرباعية، السيد تيري رود لارسون.
يومها كنت "عاطفيا" راغبا في قبول التكليف بمنصب رئيس الوزراء، لكن عقلي كان يرفض.
وبعد يومين من تكليفي ذهبت إلى الرئيس ياسر عرفات برفقة الطيب عبد الرحيم أمين عام الرئاسة وقلت له:لا أريد أن افرق أو أقسم فتح وأعتقد بأن ابو مازن اختيار جيد والذي أعتقد أنه يجب أن يكون رئيس الوزراء... وسنحضره لتقوم بتكليفه بتشكيل الحكومة .. فوافق وهذا ما تم فعلا. وكنت اخشى ان قبلت المنصب او التكليف ان يحدث اشكالات داخل حركة فتح بين مؤيدين او معارضين لتولي المنصب.
الدكتوراه الفخرية من جامعة القدس
--------------------------------------------------
وعندما شعرت في صيف العام 2004 بأن الحصار بكل اشكاله يشتد حول الرئيس ياسر عرفات اقترحت على مجلس أمناء جامعة القدس الذي كنت رئيسه في ذلك الوقت منح درجة الكتوراه الفخرية للرئيس ياسر عرفات. وبسبب الحصار المفروض عليه قررنا ان نذهب اليه. وفي مقره بالمقاطعة احتفلنا بمنحه الشهادة وخاطبته قائلا: وبسبب الحصار المفروض على الرئيس أتينا بجامعة القدس هنا، مثلما ذهبت الجمعية العامة للام المتحدة من نيويورك إلى جنيف عندما لم تستطع الوصول إلى نيويورك. جاءت جامعة القدس لتزورك وتكرمك وتقول لك نحن معك في إصرارك على حق الفلسطينيين في العيش بكرامة وعزة في دولة مستقلة، ومعك في مكافحة الفساد، وفي خيار السلام، ونطالب العالم بأن يرفع الحصار عنك، وانت الرئيس الشرعي المنتخب.
وقد كان "ابو عمار" سعيدا جدا في ذلك اليوم وشعر بتمسكنا به وبقيادته وبإخلاصنا،واعتبر أن تلك الشهادة من أعز ما حصل عليه.
مرض الرئيس واستشهاده
في رام الله .... وباريس .... والقاهرة .... والى رام الله
----------------------------------------------------------------------------
وتوالت الايام وقد بقي الرئيس محاصرا في المقاطعة، ولم انقطع عن زيارته انا وافراد عائلتي كعادتي خلال طيلة فترة وجوده في أرض الوطن، ولم أكن أتوانى عن تنفيذ أية مهمة أو أي طلب يطلبه " القائد " و "البطل" أبو عمار مني باستثناء المناصب الوزارية وتشكيل الحكومات التي كنت اعتبر التكليف تشريف لي وثقة أعتز بها ولنفس السبب كان اعتذاري وهوعدم قلقلة وضع فتح.
وحين تعرض للانتكاسة الصحية في أواخر شهر تشرين الأول/اكتوبر 2004 لم أشعر بقلق كبير عليه، فقد كنت اعتقد أن ما يحدث هو مجرد غمامة ستزول وسيعود "أبو عمار" بعد شفائه منها كعادته قويا صلبا .. قائدا وبطلا.
لازمته أثناء مرضه الأخير في رام الله، وعرض علي في تلك الايام منصب رئيس الوزراء للمرة الثالثة .
وقال لي وأنا أودعه في المقاطعة بعد أن صعد الى الطائرة المروحية : "لا تتركني يا منيب". يبدو أن عقلي وقلبي لم يكونا قادرين على استيعاب رؤية أبو عمار في هذا الموقف... فسقطت على الارض وغبت عن الوعي نحو نصف ساعة. واتصل أبو عمار من عمان التي وصلها في طريقه إلى باريس للاطمئنان على صحتي . ولحقت به إلى باريس لأكون قربه .. وكانت تلك الأيام من أقسى وأصعب الأيام علي في حياتي، مع انني كنت دائما مؤمنا بأن ياسر عرفات سيعود، وأنه كما عودنا سيبقى وسينجو ....
وحتى عندما رافقت جثمانه في رحلته الأخيرة من باريس إلى رام الله كنت في كل لحظة انتظر واتوقع المعجزة... انه سينهض وسأتحدث إليه مجددا ... فقد اعتدت طيلة أكثر من 40 سنة عليه بطلا .. قائدا ملهما .. رجلا عظيما.. شجاعا جريئا .. إنسانا متواضعا .. صديقا وفيا .. لطيفا.. كنت أرى فيه الأم بحنانها وحبها وحرصها ومثابرتها والأب في حنوه وعطفه وإرشاده و"قسوته" وقراراته. وكانت مخيلتي تستعيد الذكريات معه .. وكيف كنت أراه في المجالس كريما ودودا محبا للدعابة ومقبلا على الحياة بزهد ونبل وسمو وإيمان بالله وبمعتقداته وبفلسطين التي عاش واستشهد محبا لها ولترابها ومجاهدا لتحريرها وبناء حاضرها ومستقبلها. ولهذا لم أكن أتصور انه يمكن فقد كل ذلك في لحظة واحدة.. لكنها إرادة الله ولا راد لقضائه.
ولم تنقطع علاقتي مع "ابو عمار" بعد دفنه .. وما زلت اتردد على ضريحه كلما جئت الى رام الله ، أقرا على روحه الطاهرة فاتحة القرآن الكريم ، وابثه شجوني، واستعيد شيئا من تلك الايام التي افخر واعتز بانني عرفته ورافقته فيها .
رام الله في 20/1/2009