طهــر الكوفيـــة
بقلم: *غريغوريوس الثالث
عندما يلف الطهر جسدا يسقط عنه القلق ويجعله سابحا في فضاء لا يتسع الا لعيني إله ولا يمكن إدراكه بالحواس عندها، يتلمس الحس حوافي العقل فيشعر بطمأنينة من لمس العرش الإلهي فارتاح بعد تعب وحصار.
هذا الختيار الذي سكن بيننا زمنا. صار ممتزجا بتاريخ النقاوة وهو حكما لم يخرج من بيننا إنما كنا نتوكأ عليه في اوجاعنا وأحلامنا، واليوم صرنا نطلبه أكثر لأنه امتزج بين الكون والكان.
في القدس، لم يكن الحمام الزاجل يعرف ان يزعق غضبا قبل سطوة عنفوانه، ومنذ زمن المسيح افتقد الهيكل لمن يحمل سوطا فكان هو. اخاف أرجاس الشر فخشوه وهو حي ومائت فمنعوا ان يرتاح في تراب القدس.
بين مجد الله في السماء والسلام على الأرض زرع ايمانياته، ما آمن بالعنف إلا ليوقف العنف، وما طالب الا بالسلام لكن القدر شاء أن يكون أمامه أعداء السلام.
في المسيحية، كلما تقدسنا في الأرض أصبحنا على مسار التقديس في السماء، وكلما غمرتنا الأرض باهتماماتها صارت طريق السماء متعرجة، لكن عندما يكون الاهتمام أوجاع الناس فإن قوس قزح يرتسم بين نفوسنا والعرش الإلهي لأنه عند ذلك تصبح الجغرافيا أجسادنا والتاريخ رحيلنا الدائم نحو إحقاق الحق. وهذا الرجل ربط التاريخ والجغرافيا بجسده فكان هو وحبيبته فلسطين وجهي عملة. خبأ حبيبته بكوفيته وستبقى رمزا إلى أن تتحرر الحبيبة.
الأب الكبير لقضية كبيرة، كان يحمل الصغار المصابين بأسلحة الصهاينة، يقبلهم بفرح لأن ألمهم أكبر منهم لا يمكنهم إدراكه اما هو فيدرك.
كانت له الجرأة أن يتجاوز ألمه عندما وضع يده بيد أعدائه ليبرهن للعالم أنه لا يدع الحقد يسيطر على مصلحة شعبه وعندما بكى أمام المصورين الصحافيين أدرك العالم أن هذا الرجل الحديدي يحمل في صدره قلبا.
أبو عمار ليس أسطورة، إنه حكاية ستبقى ترويها الجدات للأحفاد، والبندقية لن تقبل ان يكون بديلا منها إلا غصن الزيتون، هذا ما حمله الختيار ذات يوم الى الأمم المتحدة، وهذا ما سيستمر ما دام هناك طفل يولد في صبيحة كل يوم جديد. هيرودس مات ولعنه التاريخ، لكن طفل السلام ما زال حيا في قلوب الناس.
رحم الله أبا عمار، فقد كان قضية في رجل، وهو إن رحل إلا انها باقية في ضمائر الفلسطينيين ويا ليتها تبقى حية أيضا في ضمائر العرب.
*بطريرك إنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم
(السفير اللبنلنية 12/11/2004)