في ذكرى تأبين ياسر عرفات
*عفيف صافية
سيداتي سادتي
لا لم يكن معصوماً لكن من هو ؟
مع ذلك كان رجلاً عظيماً.
وبدون منازع واحداً من أعظم الرجال في النصف الثاني من القرن العشرين وعلى امتداد عمره السياسي كان ياسر عرفات هدفاً لمحاولات مستميتة من أجل اغتياله ليس لكونه ثائراً ولكن نظراً لما يمثله، فالشعب الفلسطيني يمثل في وجوده كابوساً مزعجاً لاولئك الطامعين في ارضه.
ولهذا الشعب المهدد بالاندثار التاريخي، ولهذه الأرض المحتلة وسكانها المشردين كان ياسر عرفات هو المنقذ الباعث للحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف عام 1965 وكان محركها وقائدها لنحو اربعين سنة.
لقد كان ديغول الشعب الفلسطيني، وكان عليه مثل ديغول أن يحارب الأعداء والأصدقاء على السواء من أجل تحقيق منزلة وموقع شرعي للشعب الفلسطيني غير منقوص.
وكانت المأساة فوق ذلك على امتداد هذه العقود الأربعة غياب تشرشل اوروزفلت عربي، لكن هذه قضية أخرى.
سيداتي سادتي:
كتابة التاريخ أمر بالغ الأهمية، وكذلك التعريف به ونشر رواية المرء الخاصة عن تاريخه، فنحن ما زلنا نعاني من خوض معركة شاقة من جراء صورة زائفة عن التاريخ تتعلق بعرض باراك السخي.
وينبغي أن لا نخسر ثانية معركة الروايات المختلفة للتاريخ فكما نما إلى علمنا اليوم أنه بسبب اختفاء ياسر عرفات من الساحة فثمة نافذة لفرصة اعادة احياء العملية السلمية، كما نما لعلمنا كذلك انه بسبب خلو المسرح من ياسر عرفات فسوف يستطيع الشعب الفلسطيني أخيراً ان يتواءم مع الديموقراطية والانتخابات.
سيداتي سادتي:
سيسجل التاريخ أن ياسر عرفات كان يقود ويحمي نظام تعدد الأحزاب الذي يتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية، وسيسجل التاريخ أنه على الرغم من الضغوط الهائلة الاقليمية منها والدولية فقد وقف ياسر عرفات دائماً وبكل حزم أمام استبعاد الصبغة الاجماعية للحركة الوطنية.
وسيسجل التاريخ أن ياسر عرفات إلى جانب رصيده الثوري والتاريخي فقد حاز عام 1996 على الشرعية الديموقراطية عبر انتخابات رئاسية تحت اشراف دولي، وبتنافس مع مرشحة هي السيدة سميحة خليل، المشرفة على اكبر منظمة اهلية في فلسطين.
أما بالنسبة لاحياء عملية السلام، فما زلنا نذكر هنا في لندن خطاب رئيس الوزراء توني بليز في المؤتمر السنوي لحزب العمال (سبتمبر 2004) حيث قال : أهلاً بنوفمبر " Come November" "وسوف أجعله اولويتي الشخصية".
وفي حينها لم يكن ياسر عرفات، حتى مريضاً بعد، "واهلا نوفمبر" تعنى ببساطة " عندما يصلنا الدعم ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية.
وكانت تشيع في ذلك الحين، وعبر القنوات السرية فكرة قيام وزراء الخارجية الثلاثة الكبار بالإتحاد الأوروبي بزيارة مشتركة إلى رام الله وهم جاك سترو ويشكا فيشر وجاك برنيير. وذلك من أجل العمل على فك الحصار عن ياسر عرفات في المقاطعة واستعادته لحرية الحركة.
سوف يسجل التاريخ أن إحياء عملية السلام اليوم لا تعزى لوفاة ياسر عرفات ولكنها نتيجة التقاء عوامل ثلاثة:
1. رغبة الرئيس الأمريكي جورج بوش في حفظ مكان له بالتاريخ بعدما ضمن مقعد الرئاسة الثانية داخل البيت الأبيض .
2. وجود سخط هائل ـ أوروبي ودولي عبر عنه توني بلير بعنف تارة وباعتدال تارة أخرى مقترناً بعجز الإدارة الأمريكية على امتداد اربع سنوات وما انتهت اليه من تدهور غير مسؤول للموقف بين الاسرائيليين والفلسطينيين.
3. يتنامي الوعي العالمي من باريس حتى باكستان ان الذي عمل على تسميم العلاقات الدولية واوجد شرخاً مع العالم العربي والإسلامي هو المأساة الفلسطينية التي لم تجد حلاً، بالاضافة إلى المباركة والانحياز الأمريكي المكشوفين لصالح الاطماح الاقليمية الإسرائيلية.
ياسر عرفات عقبة في طريق السلام، لكن سيسجل التاريخ أننا بحاجة إلى عقبة اسرائيلية من النوع ذاته من أجل أن نحقق المزيد من النجاح في بحثنا المراوغ
سيدتي سادتي:
يتحدثون عن الإصلاح، ونحن نقول لا إصلاح، الإصلاح لن يكون شروطاً مسبقة تفرض علينا من العالم الخارجي.
الإصلاح توقع فلسطيني وتطلع فلسطيني، وحق فلسطيني، بل وحتى واجب على الفلسطينيين.
يطالبون بالإصلاح ونحن نقول لا فالنظام السياسي الأمريكي ينحرف بتزايد نحو الوساطة الدعائية أكثر من شغفه بالديموقراطية، حيث اللوبيات تخطف السياسة الخارجية الأمريكية، وحيث الجماعات ذات المصالح قد دجنت بالكامل وفرضت مؤسسة سياسية تفتقر إلى النزاهة.
هم يتحدثون عن الإصلاح ونحن نقول لا إصلاح
سيداتي سادتي:
معظم المعلقين يشيرون مراراً وتكراراً في هذه الأسابيع الأخيرة ـ عن علم أو بدون علم ـ إلى مقولة ماكس فيبر (عالم الإجتماع) الذي كتب منذ أكثر من قرن مضى عن ثلاث مراحل للقيادة السياسية والشرعية.
1. القيادة التقليدية
2. القيادة الكاريزمية (التي تخلب قلوب الجماهير)
3. والقيادة الدستورية وقد كان لنا ما قبل عام 1948 قيادة تقليدية وقد شهدنا الآن قيادة كاريزمية ونحن نبدأ الآن في مرحلة القيادة الدستورية وكما شهد العالم كان عندنا انتقال سلس أظهر فيه الشعب الفلسطيني نضجاً عالياً واحساساً عظيماً بالمسؤولية.
سألت ياسر عرفات ذات مرة : يا أبا عمار متى كان أسعد يوم في حياتك فأجابني برد شاعري " أسعد يوم في حياتي لم أعشه بعد"
أبو عمار في وقت واحد كنت فرداً وكنت فكرة وكنت مؤسسة الفرد فان ٍ لكن الفكرة ستكون خالدة من خلال المؤسسات التي ساعدّتَ على بنائها.
شعبك الذي نذرت له نفسك وكرست له حياتك سوف يعيش اليوم أسعد يوم.
* سفير فلسطين في واشنطن
كلمة القيت في حفل تابين لعرفات في 7/12/2004بلندن