أبو عمار ... القائد والانسان واستهلت الصّحفية أسئلتها قائلة :" ما هي صفات القائد أبو عمار؟" فأجبتها: إن قائدنا الأخ أبو عمار قوي كالبحر، أو كزند عامل فلسطيني، هادىء كزيتونة رومانية ... أغصانها في السماء وجذورها تمتد في عمق الأرض، ابتسامته جزء من وجهه ... وكوفيته رمز ثورة .. إنه عنوان قضية، "يزدهر بالازمات" والازمات تلاحقه، يخرج من أزمة إلى أزمة، فطريقه ليس سهلا، ولم يكن يتوقعه أن يكون سهلاً، لقد اختار الطريق الأصعب، وكان الشعب معه في الاختيار، كان عليه أن يسقي الزهرة الفلسطينية في مستنقع يمتلىء بالمياه الأسنة، ونمت الزهرة، ورغم العوسج والشوك والصخر والطحالب وكل الطفيليات، أينعت الزهرة الفلسطينية، وكان القائد يرعاها في بحر من المتناقضات والمياه المالحة . وكان على الأخ أبو عمار أن يرعى كل صغير وكبير، حتى الأبناء العاقين والمتطاولين .. فقلبه كان يتسع لهؤلاء الصغار وقد كان مشغولا في عظائم الأمور، وكان مثل "فتح" قلبا رحبا متسامحا يحتضن الجميع ويحنو على الجميع .. زهد في الدنيا وأعطى نفسه وقلبه ووجدانه وطاقته للقضية والثورة والوطن والقدس ... أحب فلسطين والفلسطينيين، وكانت ثقته في كل فلسطيني بغير حدود. ان تكون فلسطينيا معناه أنك قريب منه حبيب اليه * ثم سألتني: ما الذي يحزن ياسر عرفات؟ ـ وأذكر أنني أجبت بسرعة ودون ابطاء، وقلت :" انهم الاطفال وخاصة ابناء الشهداء الذين يشعر بمسؤوليته المباشرة تجاههم، ويرى في عيونهم مجد آبائهم واشراقة المستقبل. واليوم اتذكر كم أخطأت عندما تناولت هذا الموضوع، وخاصة أثناء معركة بيروت عندما كانت الحمم لا تصيب إلا الاطفال، وكنت أرى ردة الفعل عند الأخ أبو عمار عندما كان العدو يركز على قصف المناطق الآمنة بغية الضغط عليه للاستسلام. * وكان سؤالها الثالث : كيف يتعامل معكم ياسر عرفات ... وكيف تفهمونه؟! ــ فاجبتها:" نحن في "فتح" ننادي قائدنا أبو عمار "يا اخ يا أبو عمار" بدون مقدمات أو القاب أو تفخيم وتعظيم، وبكل بساطة نقول (يا اخ أبو عمار)، واتساءل اين توجد مثل هذه الصياغة في عالمنا العربي، فأصغر ضابط في الجيوش التقليدية يطلب مناداته "بسيدي" أو العديد من الالقاب التي لا تعد ولا تحصى، أضف اليها مواصفات الرتب وقدمها، وكثرة النياشين وتكدسها على الصدور! اما نحن فنفخر باننا ننادي قائدنا بالاخ أبو عمار. ـ أجبت :" ليس سهلا ان يكون الإنسان قائدا للشعب الفلسطيني، والذي يتصدر قيادته لا بد ان تتوفر لديه قدرات وامكانيات غير عادية، إذ عليه معرفة شعبنا الفلسطيني بكل تشعبات المعرفة تلك، من هنا تميز الأخ أبو عمار بهذه القدرة، فهو يستمع لأي فلسطيني، ويهتم بكل صغيرة وكبيرة، حتى ادق التفاصيل يصغي اليها، وكثيرا ما التقي أشخاصاً ليس لديه سابق معرفة بهم فكان يصغي اليهم، ويحاورهم، ويناقش معهم أبسط الأمور، يفرح لقصص نضالهم، ويحثهم، ويشجعهم، وهذا يعتبر تفوقا في تقدير امكانيات شعبنا". كثيرون منا حاولوا الابداع والتقدم، ومحاكاة قدراته من اصغر عنصر في قواتنا حتى القادة، لكن الجميع يعرف ذلك ويقر بانه لا يمكن اللحاق به في العطاء والتضحية والاقدام، فحين كنا نفكر في امورنا الشخصية وطموحاتنا، كان يفكر في قضايا شعبنا المصيرية وسبل الوصول إلى حلول لها، وعندما كان يشكو بعضنا من التعب والارهاق والمرض أو غير ذلك، كانت طاقة عطائه تفوق الوصف، رغم التعب والارهاق الذي كان يبدو عليه، كان يجلس كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل يتابع كافة تفاصيل العمل النضالي، يقال ان العباقرة ينسون بسرعة، لكنهم يتذكرون بسرعة أيضا، لكن الأخ أبو عمار لا ينسى على الاطلاق ادق التفاصيل التي حدثت حتى الأسماء، وجميعنا يعرف قدرته تلك، وها قد مرت ثمانية عشر عاما على انطلاقة ثورتنا، لكنه يذكر كل حدث حصل وكل معركة مع العدو بأدق تفاصيلها، يذكر كل رجالات الثورة، وكل مقاتليها، وعندما يقرأ شيئا لا ينساه، كنا نستغرب من اين تأتيه هذه المعلومات، ففي التاريخ له باع طويل، وفي الفلسفة، وفي العلوم الحديثة، إنه يقرأ ويقرأ الكثير جدا، لا يفوته حدث في العالم دون ان يكون عنده المام به. لقد مرت ثورتنا بمنعطفات حادة وقاسية، يصعب الخروج منها، لكن الأخ أبو عمار كان يجتاز بالثورة كل هذه المنعطفات إلى بر العمل الفعال، والى النتائج الأفضل في كل مرحلة من مراحل النضال، وكانت مكانة الثورة تتقدم وتعزز. القادة "المعاصرون" يتاخرون خلف الخطوط بحجة الاعداد والدراسة الخ.. لكن الأخ أبو عمار يخطط ويضيف، ثم ينتقل إلى ارض المعركة ليراقب النتائج ويعيشها. وفي عام 1978 عندما شن العدو الصهيوني هجومه على الجنوب، كان الأخ أبو عمار هناك وعلى جسر القاسمية حيث شاهده كل مقاتل في الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بجانب مقاتليه، قال البعض حينذاك "الأخ أبو عمار لا يسمح حتى للعنصر بالمزايدة عليه" لكن هذا القول في جوهره يعكس أيضا ان الأخ أبو عمار دائم الحضور والتواجد وهي صفات القائد الحقيقي. وعن بعد النظر عنده فهو الأقوى دائما، وكما هو معروف فان مقاتلينا على مستوى متقدم من الوعي السياسي من خلال فهمنا لتسييس البندقية، وكان كل مقاتل فينا ينظر إلى الأمور السياسية من وجهة نظر خاصة، وكثيرة هي حلقات النقاش السياسي والتحليل للظروف والاوضاع، وكثيرا ما كان البعض يرسم خطوط التحرك في هذه المرحلة أو تلك، وكنا نتوقع ان يقع الأخ أبو عمار في الاخطاء السياسية نظرا لحدة المواقف والمراحل التي مرت بها الثورة الفلسطينية، لكنه كان دائما على حق، وكانت النتائج تبين صحة رأيه، ولا نصحو الا بعد ان تظهر النتائج حسن ادارته وفهمه للأمور، حتى شعارات الثورة التي كان يطلقها الأخ أبو عمار، كان يدرسها جيدا وبدقة بالغة، اما تسميات الاعوام لديه فكانت تأتي كالتنبؤات. بودي أن أتحدث بكل ما عرفته وعايشته عنه ومعه .. وكما أسلفت ليس لهدف ما، فنحن في الثورة الفلسطينية نعيش في جوهر الديمقراطية التي هي الديمقراطية الفلسطينية الفريدة في هذه المنطقة، والاخ أبو عمار قائدها ورائدها وهو القائل " دع كل الزهور تتفتح في واحة هذه الثورة" لكي يتقدم كل مناضل لتقديم الأفضل، ليبدي آراءه ليساهم في بناء الثورة الخالدة، ولم يمنع يوما أي مقاتل في الثورة الفلسطينية من إبداء رأيه، أو تقديم مشورته، أو اعلان تحليله لأي موضوع أو حدث يخص الثورة، حتى النقد، والنقد الجارح والهدام أخذ مكانه في الثورة دون ان يمس صاحبه. كان يطلق للمبادرات العنان فخلق المؤسسات التي رعاها بكل جوارحه، ونمى روح التعاون بين عناصرها، وساعد على أن تأخذ مكانها في الحياة النضالية للثورة الفلسطينية، فلكل عمل كانت مؤسسة تراقبه وتديره سواء كان العمل العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو العلمي والثقافي، أو الشؤون الاجتماعية. وكان يرى في هذه المؤسسات الفلسطينية أعمدة الحماية والدعم للقرار الفلسطيني المستقل الذي هو بشخصه عنوانه ورمزه، وكثيرة هي محاولات الالتفاف على القرار الفلسطيني المستقل الذي خلق لنا هويتنا السياسية وحافظ عليها، واعطى لشعبنا الفلسطيني كلمته ووجوده بين الامم، فأصبح اسم الفلسطيني مفخرة ومثالا امام العالم كله شرقه وغربه ونموذجا يحتذى في التضحية والفداء بين كل حركات التحرر، وما محاولات سرقة هذا القرار أو اضعافه الا محاولة تصب في المخطط الصهيوني الذي لا يكل في البحث عن بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية، وما محاولات الالتفاف على القرار الفلسطيني المستقل الا عملية سرقة واضعاف للثورة والشعب الفلسطيني لتصبح القضية الفلسطينية برمتها في جيب هذا النظام أو ذاك، وهنا كان الأخ أبو عمار القلعة الصلبة التي تحافظ على هذا القرار وتحميه. لقد حاولوا اغتياله عدة مرات، لاغتيال القرار الفلسطيني، ولا اريد ان اعدد تلك المحاولات، لكنني اذكر انه صاحب حس امني كبير، وهو معلم في هذا المجال، لقد حوصرت بيروت وطريق دمشق عام 1976 وخرج الأخ أبو عمار دون ان يشعر به احد باحدى الطرق وعاد ثانية إلى قلب بيروت بطريقة أخرى وفوجىء العالم، كيف خرج وكيف دخل. أما أبو عمار الإنسان القائد الرمز فلا تكفي المجلدات للحديث عنه، فلقد كان يقضي معظم أوقاته في التنقل من خندق إلى خندق ومن متراس إلى متراس ومن طائرة إلى طائرة. ما ارتدى يوما سوى تلك البدلة الكاكية، ولا أكل يوما الا كأس شاي وحبات زيتون وقطعة جبنة. وكان رفاق دربه يجودون عليه احيانا ببدلة كاكية، يمسح حذاءه بيده، يُرتب سريره المتواضع كجندي دائم الاستعداد، لم يترك كوفيته يوما، حتى صارت الكوفية تعني أبا عمار والثورة والقضية، وكل هذا الترابط بين القائد والشعب، وبين الإنسان والأرض. ـــــــــــــ * الللواء محمود الناطور أبو الطيب قائد قوات الـ17 من كتاب :القاطع الثالث من زلزال بيروت | |
2015-12-09