في مثل هذا اليوم الأول من تموز/ يوليو عام 1994، عاد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ياسر عرفات "أبو عمار" إلى أرض الوطن.
وفي الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، قبّل عرفات أرض الوطن على الجانب الآخر من الحدود وأدّى الصلاة شكرا وحمدا لله على عودته بعد 27 عاما من الغياب القسري، وكانت تلك المرة الأولى التي يعود فيها، ليس كفدائي متخفٍ، بل أمام عيون الملايين في العالم الذين تابعوا عبر الشاشات مشاهد عودته، وذلك في إطار اتفاق "أوسلو"، الذي وقعته منظمة التحرير عام 1993.
توجه عرفات فور وصوله إلى قطاع غزة، إلى ساحة الجندي المجهول في مدينة غزة، حيث احتشد عشرات الآلاف لاستقباله، قبل ان ينتقل إلى مخيم جباليا الذي انطلقت منه الانتفاضة، وقال هناك: "لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة".
وفي اليوم التالي، عبر الرئيس الراحل "أبو عمار"، قطاع غزة بسيارته، متوقفاً من حين لآخر لـمصافحة الناس، الذين احتشدوا بالالاف لتحيته، وهم يهتفون "بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار"، فرفع يده واسكتهم وقال: "اهتفوا فقط لفلسطين".
وفي الثالث من تموز، انتقل عرفات من غزة إلى أريحا على متن طائرة مروحية، وخرج المواطنون لاستقباله بحماسة أعادت إلى الأذهان مشاهد استقباله في قطاع غزة، وهتف عرفات مطولا مع أبناء شعبه بـ"الروح بالدم نفديك يا فلسطين".
وفي الـمقر الجديد للسلطة الوطنية الفلسطينية في مدينة أريحا، أدت الحكومة الأولى اليمين الدستورية، وردد عرفات، ومن ورائه 12 وزيرا، "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لوطني، ولقيمه الـمقدسة ولترابه الوطني، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أعمل لـمصلحة الشعب الفلسطيني، وأن أقوم بواجبي بإخلاص. والله شاهد على ذلك".
ومن مقره في "المنتدى" غرب مدينة غزة، بدأ عرفات معركة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية وإقامة مؤسساتها، كان مكتبه شبيهاً بذلك الذي تركه في تونس، قاعة اجتماعات، ومكاتب، وغرفة ليقضي فيها قيلولته.
لقد اختار ياسر عرفات العودة وهو مدرك لما يريد تجسيده على الأرض، ومتيقن بأنه لن يكون تابعا لأي طرف كان، وحافظ على القرار الوطني المستقل لينهي حياته شهيدا في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، بعد أن رسخ نهجا ثوريا صلبا، وعقب حصار إسرائيلي جائر لمقر الرئاسة، جاء ردا على مواقفه الصلبة وتمسكه بالثوابت الوطنية.