في الذكرى الثامنة عشرة لاستشهاد ياسر عرفات.. رجل عصره وبطل زمانه

2022-11-08

لم يخرج ياسر عرفات من عشيرة أو قبيلة، ولا من طبقة برجوازية أو ارستقراطية، ولم تدفعه الى الظهور منطقة جهوية، ولا دفعه الى الظهور حزب سياسي، ولم تصنعه قوى تصنع القيادات في لعبة الأمم، وإنما خرج من صفوف البسطاء والفقراء والكادحين والذين شرّدهم الاحتلال والقى بهم في المنافي والشتات.


فتى عاديًا
في ذلك الزمن الذي شبّ فيه وترعرع كان فتى عادياً، يتحلى بالوطنية مثل غيره من الشباب الفلسطيني الذي خرج من جرح النكبة، لكنه كان مبادرا يفكّر بالطريقة نفسها التي يفكّر بها العديد من الشباب الطليعي الذي يسكنه حب وطن ضائع، وشعب مشرد.
كان فتى عادياً حين بادر الى دعم الثوار وجمع السلاح لهم ابّان حرب عام 1948، وكان فتى عاديا حين ذهب للتدريب ورافق المقاومين المصريين عام 1952على جبهة قناة السويس، وكان فتى عاديا عندما بادر الى خوض انتخابات رابطة طلبة فلسطين في القاهرة.


رفاق يشبهونه، والمفرد بصيغة الجمع
في الرابطة التقى برفاق يشبهونه، ويحملون حب فلسطين جمرة لا تنطفئ في وجدانهم.
كان رفاقه في الرابطة شباناً حالمين، خرجوا من صفوف الفقراء والبسطاء، يبحثون عما يمكن فعله لحماية الهوية الفلسطينية،
ومساعدة زملائهم الفقراء في تسديد أقساط الجامعات، والاحتفال بالمناسبات الوطنية، ومد الصلات مع الطلبة العرب.
كانوا طلبة عاديين، ولكنهم مبادرون، وناشطون، وقادرون على بلورة الفكرة، وعلى إعلاء اسم فلسطين في التجمعات والاتحادات الطلابية العربية والعالمية.
من هنا نضجت تجربة الفتى العادي الذي سيصبح غير عادي وهو يغذ السير نحو الفكرة.
ومن هنا نضجت تجارب رفاقه العاديين الذين سيرافقونه ويصبحون غير عاديين.
اتسع دور الرابطة في وقت خلت فيه الساحة من التمثيل السياسي لفلسطين، وصارت مرجعية وطنية لآلاف الطلبة الفلسطينيين في جامعات العالم، وكانت الرابطة التشكيل الوطني المعترف به للهوية الفلسطينية.
ياسر عرفات كان مفردا بصيغة الجمع، لذا تبوأ الموقع القيادي في رابطة الطلاب، وعندما أنهى دراسته ولم يعد طالبا، دفعه طموحه القيادي الى تأسيس رابطة للخريجين.
استقطبت الرابطة طلبة ينتمون الى أحزاب قومية وإسلاموية وأممية، والى طلبة مستقلين، فكانت الرابطة أول جبهة وطنية توحد مختلف التيارات والتوجهات، لكن ياسر عرفات كان فلسطينيا مستقلا يطمح الى تشكيل قوة فلسطينية تعيد إحياء الوطنية الفلسطينية وتختلف عن الأحزاب القومية أو الإسلامية أو الأممية التي لم يكن في أولوياتها الانخراط الفوري في تحرير فلسطين.


عرفات الممارسة والنهوض القومي
تعلّم ياسر عرفات واكتسب خبرة ومعرفة، ونضجت الفكرة في أعماقه من خلال الممارسة، ومن هنا أصبحت الطريق التي سيسلكها شديدة الوضوح، وهي البحث عن سر القوة.
كانت مرحلة النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي تشهد نهوضا قوميا، فالمد الناصري يتصاعد، والثورة الجزائرية تعلن الكفاح المسلح، وحركات التحرر في آسيا وافريقيا تحقق انتصارات، والشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة متعطش لامتلاك سر القوة، وانتزاع زمام المبادرة. إذ ذاك توفرت الظروف التي ستطلق الوطنية الفلسطينية من عقالها.
عندما انفتحت أبواب الخليج، توزعت النخب الفلسطينية على دول الخليج للعمل، وساهمت الظروف في تشكيل بؤر وخلايا فلسطينية تطلق على تشكيلاتها أسماء تنظيم أو جبهة تسعى لتحرير فلسطين، لكنها كانت في الواقع ليس أكثر من نوايا طيبة لمجموعات حالمة تجتمع في غرف مغلقة.
التقى العادي ياسر عرفات بالعادي خليل الوزير في الكويت في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، كانت الفكرة قد نضجت، فلكل منهما تجربة يعتدّ بها، ياسر عرفات في الرابطة، وخليل الوزير تجربة وممارسة ميدانية، فهو الذي أسس مجموعة فدائية عام 1954 وهو طالب في الثانوية مع رفيقيه محمد الافرنجي وحمد العايدي، قامت بعمليات فدائية على الشريط المحاذي لقطاع غزة، وانتهت عندما اكتشفتها الإدارة العسكرية المصرية، وأدت الى اعتقال خليل الوزير ثمّ نفيه الى الإسكندرية.
التقت أفكار الرجلين اللذين كانا مفتونين بتجربة جبهة التحرير الجزائري، ومعا حدّدا برنامج عمل حالم ما كان له أن يتحقق لولا عبقرية الانتقال من التنظير الى الممارسة، ومن المجرد الى المحسوس. ولولا انضمام رفاق درب في الرابطة الى الفكرة، وانضمام مجموعات أخرى في قطر والسعودية وسورية والأردن وألمانيا وداخل الأرض المحتلة.
من هنا صار العادي غير عادي، وصارت الظروف مواتية لظهور جيل طليعي سيكتسب فيما بعد لقب: جيل العمالقة.


روافد نهر فتح
تأسست حركة فتح في السياق التاريخي المناسب، وتشكّلت من نهر وروافد، وأصبحت حركة فدائيين يرفعون شعار: الكفاح المسلح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وأعادت الاعتبار للهوية الفلسطينية، ورافقت تأسيس منظمة التحرير، بل وتبوأت قيادتها بعد الإنجازات التي حققتها الحركة الفدائية وخصوصا بعد معركة الكرامة.
من صفوف البسطاء الحالمين خرج ياسر عرفات، ظهر في لحظة تاريخية كان الشعب الفلسطيني فيها بحاجة الى رموز تعيد له الثقة والكرامة والأرض والوطن.
خرج باسمه الحركي، وظلّ بعيدا عن الأضواء، ينكر الذات، ويتقدم الصفوف من أجل التضحية، ويعيش مع رفاقه في قواعد الفدائيين التي انتشرت في الأغوار على امتداد ضفة نهر الأردن، ويقود ببسالة وشجاعة معركة الكرامة، وما كان لأحد من خارج صفوف رفاقه أن يعرف هذا القائد لولا ذلك الغلاف الذي تصدّر صورته في مجلة ال TIME فعرف العالم هذه الشخصية الأسطورية التي قادت معركة هزمت الجيش الإسرائيلي هزيمة قاسية.
كان الكفاح المسلح يزرع، والسياسة تحصد، وأصبحت منظمة التحرير الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.
لم يهمل ياسر عرفات العمل السياسي، فقد كان يعرف أنّه يقود واحدة من أكبر حركات التحرر الوطني في العالم معترف بها عربيا ودوليا، وأنّ هذا الكفاح يتعين أن يستثمر سياسيا.
امتد عمل المنظمة من خلال سفرائها ودائرتها السياسية وقياداتها الى مختلف الدول والقارات، وخصوصا في أوروبا التي دعمت أوساطها اليسارية النضال الفلسطيني، وكان لابدّ من طرح مبادرات سياسية في مواجهة الدعاية الإسرائيلية، فطرحت منظمة التحرير عام 1969 مشروع الدولة الديموقراطية المدنية على كامل التراب الفلسطيني، وكان ذلك عملا سياسيا بارعا حاز على ترحيب واسع في الأوساط اليسارية، ووسّع معسكر الأصدقاء في العالم، وبما أن ياسر عرفات صار رمزا فإن كوفيته التي يعتمر بها صارت أيضا رمزا للحرية يتباهى به الشبيبة اليسارية في مختلف بلاد العالم.


منظمة التحرير الفلسطينية
كثيرة هي التحالفات التي عقدتها منظمة التحرير في هذا العالم، وكثيرة هي المنظمات التي اعترفت بها، فقد كانت عضوا في الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز، وعضوا مراقبا في الأمم المتحدة، وشريكا في منظمات دولية ومنها منظمة الوحدة الأفريقية، وصداقات وعلاقات مميزة مع دول اميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وخصوصا دولة كوبا.
ولعل التحالف الأكبر الذي حققه ياسر عرفات هو التحالف مع الاتحاد السوفياتي القطب الثاني الذي كان يتشكل منه النظام الدولي. فالاتحاد السوفياتي في ذلك الحين كان يعتبر الأحزاب الشيوعية والحركات العمالية وحركات التحرر في العالم هم معسكر أصدقائه. 
لم يكن ياسر عرفات شيوعيا وانما وطنيا فلسطينيا بامتياز، لكنّه يجيد قراءة السياسة الدولية، فوجد في الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية قوّة كبرى تعزز مكانة منظمة التحرير، وتحقق الكثير من هذا التحالف سياسيا وعسكريا، وفتح الباب أمام الطلبة الفلسطينيين للدراسة، وعومل ياسر عرفات في المنظومة الاشتراكية كزعيم وطني تحرري بأكثر مما كان يعامل بها زعماء الأحزاب الشيوعية.
حقق ياسر عرفات مجدا وعظمة في الساحة الدولية، ولم تكن صحف العالم تخلو من خبر أو تحليل لكفاح الشعب الفلسطيني، أو تصريح لزعيمه، وكان مراسلو وسائل الاعلام العربية والعالمية يسعون للقائه، ولم يرفض الزعيم اجراء اللقاءات الصحافية معه، فقد كان يعتقد أن الاعلام وسيلة لإيصال صوتنا الى العالم، والى إيصال روايتنا للرأي العام الذي ظل لسنوات طويلة لا يستمع الا للرواية الإسرائيلية.


عرفات التواضع والبساطة والودّ
حقق سمعة دولية ، ولكن الغرور لم يعرف طريقه اليه، ظل التواضع سمة من سماته، والبساطة سلوك يعبر عن سجاياه، وتجلى ذلك في حياته ومعيشته وطعامه وشرابه، فلباسه البسيط من قماش الكاكي لا يتغير، وغرفة نومه تشبه غرف البسطاء من أبناء شعبه، ولا يعيبه أن يخيط بنفسه ثقبا في جوربه أو زرا سقط من قميصه، ولا يأكل الاّ مع زائريه ورفاقه البسيط والعادي من الطعام، وفي أغلب الأحيان كان يكتفي بطبق من الحساء مع القليل من حبات الذرة، ومن سجاياه المعروفة أنّه كان يطعم ضيوفه الذين يجلسون قربه بيده الكريمة، ولعلّ اطيب الوجبات اليه تلك التي كان يتناولها مع أبنائه الفدائيين في قواعدهم حيث يصبح للوقت مذاق التفاح ، أو مع أطفال شهداء تل الزعتر في بيت أطفال الصمود حيث يستمتع بمشاعر أبوّة ليس لها مثيل، وطالما حمل لهم بعد عودته من زياراته لدول العالم الألعاب والفاكهة.
كان ودودا يمتلك طاقة إيجابية تشبه المغناطيس تجذب اليه الناس والكوادر والقيادات والزعماء والشخصيات العامة محلية كانت أو عربية أو دولية، طاقة إيجابية يرفقها بابتسامته الساحرة فتجذب اليه محدثة من أول لقاء.
وكان حليما قلما يغضب، لكنه اذا غضب يغضب قليلا، فهو كالحديد يسخن بسرعة ويبرد بسرعة.
ولم يكن حقودا، فليس رئيس القوم من يحمل الحقد، وحتى لو كان في داخله عتب فإنّه لا يظهره، وطالما كان يردد الآية الكريمة: واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.


المحنك السياسي
مع هذه الجسور التي يمدها مع الآخر، ومع هذه البساطة في العيش والتعامل مع رفاقه ومع الآخرين، فإنّه في السياسة كان محنّكا، يجوب الدول ويذرع القارات ويتوجه الى أبعد نقطة على خارطة العالم من أجل كسب الدعم وتوسيع معسكر الأصدقاء.
كان يتلقى التقارير السياسية التي ترفع له من كل الجهات المختصة، ويأخذ بها علما ويحوّلها الى أعضاء اللجنة المركزية، وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
كان سياسيا عز نظيره، يتقن اللعبة، ويتقن المناورة، يقرأ السطور، ويقرأ ما وراء السطور، وعندما يتخذ القرار لا يتخذه منفردا، وانما يناقشه في مطبخ القرار الفتحاوي، ومطبخ منظمة التحرير (اللجنة المركزية، المجلس الثوري، اللجنة التنفيذية، المجلس المركزي)، ويحرص على أن يحظى القرار على موافقة الأطر الشرعية.
وكنّا على سبيل المزاح نقول: إنّ الختيار مثل فلاحين بلادنا يشاور الناس ثمّ يعود الى شور حاله.
عظمة ياسر عرفات مستمدة من عظمة شعبه، وعظمة قادة حوله، قادة جيل العمالقة، وكوادر قيادية ساهمت معه في بناء مداميك الثورة من فتح وفصائل منظمة التحرير كافة.
كان معه في المسيرة خليل الوزير، صلاح خلف، عادل عبد الكريم، محمود عباس، فاروق القدومي، خالد الحسن، سليم الزعنون، أبو علي إياد، ممدوح صيدم، سعد صايل، أبو يوسف النجار، سعد صايل، صخر حبش، أبو ماهر غنيم، فاروق القدومي، ماجد أبو شرار، انتصار الوزير، وعشرات غيرهم، ومن الفصائل الحكيم جورج حبش، نايف حواتمة، سمير غوشة، أبو العباس، وآخرون.


ومن اللجنة التنفيذية شخصيات وقامات وطنية.
كانت قيادات لها قامة ومكانة فلسطين وقامة ومكانة شعبها، وما كان لياسر عرفات أن يحقق كل الإنجازات التي حققتها منظمة التحرير دون الأدوار السياسة والنضالية التي قام بها هؤلاء القادة.
مطبخ القرار الاول، وابوعمار وابوإياد
ظلّت اللجنة المركزية لفتح هي مطبخ القرار الأول. وكانت علاقة ياسر عرفات مع أعضائها علاقة أخوّة، يجمعهم ما أطلق عليه ياسر عرفات: قانون المحبة، الذي طبّقه أيضا على عموم منتسبي الثورة. لكّن الأمر لم يكن يخلو من خلافات سياسية أو خلافات على تفرد عرفات ببعض القرارات الداخلية، فعرفات مثل أي زعيم له وعليه، ففي لعبة الحكم لابد من بعض التجاوزات.
كانت بعض الخلافات ترقى الى أزمة، وتُعطّل الاجتماعات، وتنعكس على الحياة الداخلية للحركة، لكنّ ياسر عرفات مخترع قانون المحبة يفاجئ رفاقه (الحردانين) بزيارة مفاجئة، وتبدأ عندها العواطف النبيلة لدى الطرفين، ودون أي عتاب تنتهي الأزمة، وتتآلف القلوب.
وأذكر أنّ القائد التاريخي صلاح خلف اختلف مع ياسر عرفات بعد خروجه من طرابلس، وذهابه بالسفينة التي أقلته بحراسة فرنسية الى القاهرة والتقائه بالرئيس حسني مبارك، وكانت الدول العربية بما فيها منظمة التحرير آنذاك تفرض مقاطعة على مصر بسبب اتفاقية كامب ديفيد، ذهب ياسر عرفات الى محور مصر في رسالة واضحة يعلن فيها افلاته من المحور السوري الذي كان يحاول الاستيلاء على القرار الوطني الفلسطيني المستقل.
ونظرا لأنّ هذه الخطوة غير متفق عليها، فقد غضب عدد من أعضاء المركزية وفي مقدمتهم صلاح خلف، وتحوّل الغضب الى قطيعة.
لكن عندما بدأت تحركات من النظام السوري بعد الانشقاق داخل فتح لعقد مجلس وطني يشق الساحة الفلسطينية، دعا عرفات لعقد مجلس وطني في الأردن لتجديد الشرعية، وراهن السوريون على فشل عقد المجلس وعدم اكتمال النصاب بسبب الخلافات في اللجنة المركزية، فما كان من صلاح خلف أن خرج للإعلام قائلا باسم كل المعترضين: نحن مع أبو عمار حتى آخر العمر.
ومن الطُّرف التي كنا نتندر بها، أنّ ياسر عرفات اختلف مع أحد القادة العرب، وطالت الخصومة، فقرر ياسر عرفات الذي يحرص على أن يوطد مع محيطه العربي حلاوة الانسجام لا مرارة التباين، قرر أن يقوم بزيارة مفاجئة لبلد ذلك القائد، وعندما التقاه ظل ذلك القائد عابسًا، استقبله بفتور وجلس معه دون أن ينبس بكلمة. طال الصمت، فما كان من عرفات ذي البديهة الذكية الا أن خاطب ذلك القائد بالقول: أنبيٌ وحقود؟
عندها ابتسم الرجل وعادت المياه لمجاريها.
المدافع عن القرار الوطني الفلسطيني
اضطر ياسر عرفات على الدخول في صراع مع بعض الدول العربية دفاعا عن القرار الوطني المستقل، فلم يقبل من أحد فرض الوصاية أو الاحتواء للقرار الوطني، واستطاع أن يحمي هذا القرار مهما كانت العواقب، ومن ذلك ما حدث عام 1978 لدى انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في أجواء كانت العلاقات السورية العراقية قد شهدت تقاربا بين الدولتين ووقعا اتفاقية العمل المشترك ، ولدى انعقاد المجلس شكّلا غرفة في مقر الخارجية السورية للتدخل في الشأن الفلسطيني، وأوعزا لممثلي الصاعقة الفرع الفلسطيني لحزب البعث السوري، ولممثلي جبهة التحرير العربية فرع حزب البعث العراقي بالتشدد ، وخصوصا في موضوع تشكيل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. كانت الأوامر تصدر من طارق عزيز وزير خارجية العراق، ومن عبد الحليم خدام وزير خارجية سورية.
تصدى ياسر عرفات لكل المناورات داخل قبة المجلس الوطني، واستطاع أن يفلت من كل الضغوط الى أن وصل المجلس الى بند انتخابات اللجنة التنفيذية، وكان تشكيل اللجنة يخضع للتوافق، وجاءت الضغوط السورية العراقية بمطالب تعجيزية مصحوبة بتهديد. عندها وقف ياسر عرفات غاضبا، وحسم الأمر بالقول: هناك ضغوط تمارس على هذا المجلس من خارجه، لذا تعتبر اللجنة التنفيذية الحالية قائمة ، ولا انتخابات جديدة، واعلن انتهاء أعمال المجلس الوطني.
***
عرفات الوسطي بين فكر اليمين واليسار
لم يكن ياسر عرفات متطرفا في زمن صعود موضة اليسار، وظهور الجبهة الديموقراطية التي اعتنقت الماركسية اللينينية، وتحوّل الجبهة الشعبية من ثوابت حركة القوميين العرب الى الاشتراكية العلمية، وبروز تيارات في فتح وفصائل أخرى تنحو نحو الفكر التقدمي اليساري، كان ياسر عرفات وسطيا لا ينحاز الى موقف متحفظ ولا يعادي فكرا يساريا، كان يقول أنّ الفكر الوطني في فتح يغتني ويتطور من خلال الممارسة، ففتح تأسست من تيارات قومية وإسلامية ويسارية، وفي الممارسة انصهرت كل التيارات في فكر وطني لا يتبنى سوى أيدولوجيا التحرير،  ولكنها كحركة تحرر وطني لها علاقات مع قوى يسارية في العالم وحركة الاشتراكية الدولية، ولها علاقات مع حركات التحرر الوطني في العالم، وعلاقات مميزة مع الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي،  وكانت جمعية الصداقة الفلسطينية الروسية التي يترأسها عضو اللجنة المركزية محمود عباس من أهم وأقوى الجمعيات التي لعبت دورا كبيرا وملموسا،  فتأثرت فتح بهذا المناخ وصادقت كل القوى التقدمية.
وفي سياق هذه التطورات ظهرت في فتح تيارات يسارية بعضها ينحو لتعزيز العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، وبعضها الآخر يدعو الى تعزيز العلاقة مع الصين.
لكن ذلك كله كان يجري في اطار التزام الجميع ببرنامج الحركة، وبقرارات أطرها العليا.
وكان ياسر عرفات يعلق دائما بالقول: دع مائة زهرة تتفتح في بستاننا.
كانت بعض فصائل الرفض للبرنامج المرحلي تصف ياسر عرفات في ذروة مرحلة الكفاح المسلح باليميني التفريطي، وكان وصفها ذاك يعبر عن بؤس وقصور، لأنها كانت مدفوعة وممولة من دول قومجية تسعى للاستيلاء على القرار الوطني المستقل.
لم يأبه عرفات لتلك البيانات، ولم يعرها اهتماما، فقد كان يحرص على بقاء الائتلاف في منظمة التحرير طالما هو يمسك بزمام قيادة المنظمة، وطالما تدعمه جماهير شعبه في الوطن والشتات، وطالما أنّ القرار الوطني قد اتخذ بالأغلبية في أعلى الأطر بمنظمة التحرير، فالوطنية عنده ممارسة وسلوك وثقافة.
كان ياسر عرفات الوطني والوسطي يحظى بأعلى مكانة عند كل القوى اليسارية والاشتراكية في العالم، من موسكو الى كوبا، ومن اليسار الأوروبي الى اليسار العالمي، وهو مالم يحظ به زعيم عربي سوى جمال عبد الناصر.
***
محاولات أغتيال أبوعمار
تعرّض عرفات لمحاولات اغتيال عديدة، كان آخرها اغتياله بالسم من قبل "إسرائيل"، باءت جميع المحاولات السابقة بالفشل، فقد كان لديه جهازه الأمني الممثل بقوات ال17، لكنّه في الواقع كان يعتني بأمنه الشخصي بنفسه، كان شديد الحذر والانتباه في التنقل والسفر، ومن ذلك أنه كان يعمل ليلا حتى بزوغ الفجر، لكيلا يتعرض لهجوم مباغت وهو نائم، فقد كانت العمليات التي تقوم بها "إسرائيل" تتم بعد منتصف الليل، ولعلّ عملية الفردان التي اغتيل بها القادة الثلاثة: كمال العدوان، كمال ناصر، أبو يوسف التجار مثالا.
لكن "إسرائيل" لم تتمكن منه في بيروت أثناء اجتياح عام 1982 بالرغم من محاولاتها المضنية، فلاحقته الى تونس وقصفت مقره في حمام الشط وفشلت لأنه كان متواجدا في مقر آخر.
***
اجتياح بيروت والتألق في الازمات، والاعلام
كان ياسر عرفات يعرف أنّ الاجتياح لبيروت أضحى قريبا، وكان يتوقع أن تطبق "إسرائيل" على الجنوب من جهة وعلى بيروت بالتعاون مع قوات الكتائب بقيادة بشير الجميّل، وسمّى العملية العسكرية آنذاك بعملية (الأكورديون)، وشدد على الاستعداد، وأوعز لقواتنا العسكرية بالحيطة والحذر.
وكان ياسر عرفات يتألق ويبدع في إدارة الأزمات، وتجلى ذلك في محطات ومنعطفات كثيرة، وخصوصا في معركة بيروت. أدار المعركة السياسية والعسكرية، في الوقت الذي كانت الطائرات تبحث عنه وتطارده، وكان يتنقل من مكان الى مكان دون أن يطيل المكوث، وأحيانا كان ينام في سيارته ومرافقوه في مدخل عمارة تحت الانشاء، أو في مكان غير متوقع على شاطئ البحر، ويعقد اجتماعاته مع القيادات العسكرية في أمكنة لا تخطر على بال العدو، وفي مرات عديدة كان الطيران يقصف مكانا بعد أن يغادره ياسر عرفات بلحظات قليلة.
وفي سياق الحرب النفسية وحرب المعنويات كان يسمح للمصورين التقاط صور له وهو يمارس الرياضة أو يلعب كرة الطائرة في رسالة للعدو أنّه يعيش حياته الطبيعية وفي وضع المرتاح.
وحرص على تجنيد الإعلام الأجنبي، فوفّر لجميع المراسلين الأجانب ملاذا في أحد الفنادق واعتنى بهم، ليغطوا أخبار الصمود والمقاومة للغزو الإسرائيلي الذي لم يتمكن من اختراق دفاعات قوات الثورة الفلسطينية شبرا واحدا، وكان يطلق على جموع المراسلين: كتيبة الكومودور نسبة الى الفندق الذي يقيمون به.
وتبدى تألقه وحنكته في مفاوضات الخروج من بيروت عبر السفن، فكانت "اسرائيل" تطالب من خلال المبعوث الأميركي فيليب حبيب تجريد المقاتلين الفلسطينيين من أسلحتهم ورفعهم للعلم الأبيض، لكن عرفات ومعه رجاله وقادته رفضوا، وفاوضوا بعناد وشجاعة، وخرج عرفات وقادته وضباطه وجنوده بأسلحتهم رافعين علم فلسطين، وكانت المعنويات عالية بعد صمود عز نظيره، وعندما سأل أحد الصحافيين عرفات: أين محطتك القادمة، ابتسم وأجاب: نحو القدس.
لقد أدار المعركة بمهارة وتحت سقف نيران الطائرات والقنابل والصواريخ.
***
الواقعية السياسية للختيار
تسللت الواقعية السياسية على رؤوس أصابعها بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 عندما بدأت التفاوض العربي مع "إسرائيل" على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 تحت شعار إزالة آثار العدوان.
وبدأ حديث بين بعض النخب السياسية حول مصير الضفة الغربية التي كانت لا تزال رسميا تحت الإدارة الأردنية، وكانت الأسئلة تدور حول: هل تعود الضفة للأردن أم لمنظمة التحرير؟
حتى تلك الأيام لم تكن منظمة التحرير قد حصلت على صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لكن الواقع كان يؤكد على هذه الصفة التمثيلية إذ كانت منظمة التحرير تحظى باعتراف عربي ودولي ، وكانت سفاراتها وممثلياتها تنتشر في غالبية دول العالم، وتعامل كممثلة للشعب الفلسطيني.
وفي مؤتمر القمة العربية الذي عقد في الرباط في 28 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1974 أكّدت القمة العربية على الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، كما تضمن البيان الختامي على حق منظمة التحرير إقامة سلطتها الوطنية على أي جزء من أرض يتم تحريره.
وكان المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة والذي عقد في التاسع من حزيران/ يونيو من عام 1974 أقد أكّد على برنامج النقاط العشر الذي يتضمن إقامة السلطة الوطنية على الأرض التي يتم تحريرها، والذي عرف باسم الحل المرحلي.
وقد أثار ذلك جدلا، وتحفظت عليه بعض الفصائل، لكن تم اقراره بشكل نهائي في دورة المجلس الوطني التي عقدت عام 1977.
من هنا برز تيّار الواقعية السياسية، وتعزز هذا التيار بعد أن أصدر الملك حسين قرار فك الارتباط إداريا وقانونيا وانهاء ارتباط الضفة الغربية مع المملكة الأردنية الهاشمية، وفتح ذلك القرار الباب أمام ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية لإعلان بيان الاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة في المجلس الوطني الذي عقد في العام 1988.وفي هذه الدورة تم الاعتراف بالقرارين 242 و338 واللذين كانت المنظمة ترفضهما لأنهما لا يتحدثان عن حقوق الشعب الفلسطيني، مرّ هذا الاعتراف بتغطية من بلاغة الحدث والنص الذي جاء به بيان الاستقلال وإعلان قيام دولة فلسطين.
أصبحت الواقعية السياسية أمرا واقعا، وسياسة لمنظمة التحرير في المراحل التي تلت، ومرت بمراحل عدة، وتبلورت اكثر فأكثر وساعد في ذلك اعتراف المنظمة بقراري مجلس الأمن 242 و338، ومشاركتها في مؤتمر مدريد، الى أن وافقت على اتفاق المبادئ في أوسلو وتم الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير واسرائيل،  وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية كسلطة حكم ذاتي وصولا الى قيام الدولة المستقلة.
وما كان للواقعية السياسية أن تصبح سياسة لمنظمة التحرير لولا تبني ياسر عرفات لها وتمريرها جرعة بعد جرعة في الأطر القيادية والقاعدية لفتح والفصائل، واستيعاب المعارضين لها، وتمريرها أحيانا بالتصويت عندما يضمن أصوات الأغلبية.
وهو ما لم يحدث في كثير من القرارات في المجلس الوطني في الماضي عندما كانت هذه القرارات تتخذ بالإجماع.
تمرير السياسة بالجرعات
وما كان لاتفاق المبادئ في أوسلو أن يصبح سياسة لولا مهارة ياسر عرفات في تمريره جرعة بعد جرعة موظفا مهارته وبلاغته ومحبة الكادر له، والسماح لمن يعارض بالمعارضة أو التحفظ كما حدث في تصويت المجلس المركزي لمنظمة التحرير على اتفاق أوسلو، حيث عارض من عارض لكنّه كان مطمئنا لأصوات الأغلبية، وقد حصل عليها.
كان ياسر عرفات بعد الانتفاضة الأولى يريد أن يستثمر زخمها لتحقيق هدفها في رحيل الاحتلال وقيام الدولة، وكان على قناعة بالحل المرحلي الذي يدعم إقامة سلطة على أي أرض يجلو الاحتلال عنها، وهذا ما دفعه للإنخراط بعد حرب الخليج في المحافل التي تسعى للحلول السياسية، والمشاركة في مؤتمر مدريد، والمحادثات التي رافقته، وفتح القناة السرية في أوسلو، والمراهنة عليها.
***
 كان ياسر عرفات يعرف أنّ اتفاق أوسلو لا يلبي طموحاته في حل سياسي أكثر انصافا. وأذكر أنّه استدعاني الى مكتبه بعد أن كنبت مقالا ضد اتفاق أوسلو في صحيفة الحياة اللندنية، وقال لي فيما قال: اذا كان لك عشر تحفظات على اتفاق أوسلو فأنا لي مائة ملاحظة، وأعرف ان الحل (أعرج) لكننا نريد أن نصنع له قراءة فلسطينية ونحوّله الى دولة مستقلة.
وقال: الاميركيون يضغطون علينا بعد حرب الخليج، جففوا مواردنا المالية، وماذا لو ضغطوا على الرئيس بن علي لترحيلنا من تونس؟ أي بلد عربي يمكن أن يستقبلنا؟ قد نجد أن الصين الشعبية الدولة الوحيدة التي يمكن أن تقبلنا، فيصبح بيننا وبين شعبنا بحور ومحيطات. اتفاق أوسلو يتيح للقيادة الفلسطينية ومنتسبيها العودة لأرض الوطن، واعلم أن قيادة الشعب الفلسطيني طردت من وطنها أيام الانتداب البريطاني ومن يومها وهي تعمل من المنفى.
ووجودنا مع شعبنا العظيم سيمثل قوّة دافعة لتحقيق أهدافنا.
وأقول لك أيضا أنّ من لا يكون على الخارطة الآن لن يكون على الخارطة في القرن القادم الحادي والعشرين.
واذكر اننا في مكتب الشؤون والدراسات (لفتح) عقدنا مجموعة من الندوات والحلقات الفكرية لمناقشة الاتفاق وطرح أفكار، وكانت هناك ورقة نقاش أعدّها القائد الوطني صخر حبش مفوض الشؤون الفكرية والدراسات تحت عنوان: المجازفة التاريخية وأطواق النجاة.
جرى نقاش ثري على ماذا يتعين علينا أن نفعل بعد أن صار الاتفاق حقيقة وسياسة، وعندما اتخذ القرار بالعودة لم نتردد في العودة الى أرض الوطن مع ياسر عرفات الذي مشينا معه في المسيرة منذ بداياتها وكنا نثق بقيادته ووطنيته.
***
نظرية القراءة الفلسطينية لاتفاق أوسلو، والانتفاضة
عاد ياسر عرفات الى أرض الوطن وعدنا معه مستبطنين نظرية القراءة الفلسطينية للإتفاق، وصار قائدنا رئيسا لشعب وأرض وحكومة ومؤسسات، لكّنه ظلّ ببدلته العسكرية وكوفيته وعقاله زعيم حركة تحرر وطني أكثر منه رجل دولة.
الدولة كانت حلمه، كان عرفات يريد أن يتحقق قيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة في عهده، وأن يكون هو المؤسس لها، وأن يسجل التاريخ ذلك.
لم يتخلى عرفات عن شخصية الزعيم، الزعيم لواحدة من أكبر حركات التحرر في العالم، فالسيادة على كامل الأرض لم تتحقق، والمفاوضات عسيرة، والاستيطان متواصل، وشريك الاتفاق رابين يتم اغتياله، واليمين المتشدد الرافض لاتفاق أوسلو يتقدم، وأميركا ليست وسيطا أمينا بل طرفا منحازا، ومحادثات كامب ديفيد فخ وكانت مقدمة لاغتيال صورة الرمز قبل اغتيال الرمز، وتصنيفه بغير الشريك.
وجاءت الانتفاضة الثانية وبدأت سلمية، ثمّ استدرجت إسرائيل الانتفاضة الى المواجهة المسلحة، وبالرغم من المقاومة الباسلة فإن الوضع لم يكن متكافئا، فالآلة العسكرية الإسرائيلية حوّلت المواجهة الى حرب واجتاحت المدن والقرى، وعزلتها عن بعضها البعض، وأوغلت في القتل والتدمير، وشنّت حربا في مواجهة شعب أعزل لا يملك سلاحا ذا بال يواجه به الدبابة والبلدوزر والصاروخ والطائرات.
أطلقت حربا من خلال عملية عسكرية أسمتها عملية (السور الواقي)، كان ذروتها اجتياح المقاطعة (مقر عرفات) وتدمير مبانيها، ومحاصرة الزعيم في رقعة صغيرة محاطة بالركام. والحاق افدح الأضرار بكل ما تم إنجازه من مظاهر السيادة في المنطقة المصنّفة (أ) وإعادة احتلالها ونزع أي حصانة عنها.
حوصر ياسر عرفات وطلب منه الجيش الإسرائيلي الاستسلام، والخروج هو ومن معه رافعين الأيادي. وفيما كانت الجرافات تدق جداران المكان الذي يتمترس به قال بكل أنفة وكبرياء وشموخ مقولته المشهورة: يريدوني إما أسيرا وإما طريدا وإما قتيلا ..لا أنا أقول لهم شهيدا.. شهيدا.. شهيدا.
صمود المقاطعة
كان الصمود في المقاطعة صمودا اسطوريا، وكان ياسر عرفات ومن معه من الرفاق والقادة، ومن المتضامنين الأوروبيين الذين تسللوا الى المقاطعة للتضامن مع عرفات يتحلون بمعنويات عالية، رغم حركة الدبابات والجرافات والقنّاصة والحرب النفسية، وانفتاح الوضع على كل الاحتمالات الكارثية.
أدار عرفات عملية الصمود في حصار المقاطعة بكفاءة واقتدار، تصرف كقائد وزعيم وإنسان.
ظلّ سلاحه يرافقه في مكتبه، وتحركه في تلك المساحة الصغيرة لزيارة رفاقه من القيادات والمرافقين أو زيارته للمتضامنين.
وبالرغم من شح الطعام وانقطاع المياه والكهرباء، وصعوبة الاتصالات فقد صمد ومن معه، في تضامن جماعي والاكتفاء بكسرة خبز أو قضمة تفاحة في اليوم، وقال لي أحد مرافقيه أنهم حاولوا التنازل عن حصصهم وتخصيص تفاحة كاملة له، غير أنّه رفض هذا العرض واكتفى بجزء يسير منها.
ظلّ سلاحه حاضرا، وكان قد قرر أن يقاتل حتى الاستشهاد فيما اذا اقتحم الإسرائيليون المقر.
صمود ياسر عرفات يعزى لشجاعة طالما تحلى بها على امتداد تاريخه منذ أن كان الفدائي الأول الى أن تبوأ موقع القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، وتعزى الى غبار المعارك على كتفيه التي خاضها قائدا في الصف الأول من معركة الكرامة الى معركة بيروت، وتعزى الى معنوياته العالية واستعداده للبذل والتضحية، وتعزى قبل ذلك وبعده الى صمود شعبه وتضحيانه وقوّة الحياة في روحه.
الشعب يشبهه
هذا الشعب بشيبه وشبابه، برجاله ونسائه وأطفاله الذي هبّ في لحظة تهديد لحياته عندما أمهله الجيش ثماني ساعات للاستسلام أو القتل ، في تلك الليلة التاريخية هبـّت رام الله بسكّانها من كل أحيائها في مظاهرات سلمية تضامنا ودفاعا عن القائد حمل فيها الجميع الطناجر والملاعق والطبول دون أن يعبأوا بالدبابات التي تغلق الطرق، ووصلت كل التظاهرات في وقت متأخر من الليل الى نقاط تحيط بالمقاطعة، وأذهلت هذه الهبّة الجماهيرية قوات الاحتلال فأطلقت النار بغزارة سقط على اثرها شهداء، وعجزت عن وقف تدفق المزيد من الجماهير الذين صنعوا حزام أمان لياسر عرفات، ونجحوا في افشال الإنذار الإسرائيلي.
كان ياسر عرفات يردد في كثير من المناسبات: الشعب الفلسطيني هو المعلّم الأكبر.. الشعب الفلسطيني أكبر من قياداته.
وكان باب ياسر عرفات مفتوحا أمام كل البسطاء والفقراء وأبناء البلد وأمام كل الشخصيات والنخب والكوادر والأفراد، وكان بابه مفتوحا امام كل أولئك الذين تغلق في وجوههم الأبواب.
من النادر أن يدخل المرء بيتا ولا يجد فيه صورة لرب العائلة واطفاله مع أبو عمّار، أو يتحدثون عن لمسة إنسانية تجاههم مثل تغطية علاج أو تغطية أقساط مدرسية، أو مساعدة ما، وتجلّت محبة شعبه يوم أن حملت طائرة الهيلوكوبتر جثمانه الطاهر الى ساحة المقاطعة.
كان الجثمان قد أقيمت له احتفالات وداع في باريس لا تقام الاّ للعظماء، وفي القاهرة حيث اقبل كل رؤساء وملوك وأمراء الوطن العربي تكريما له واحتفاء وتوديعا، لكنّ الوداع الأكبر والأعظم كان من شعبه الذي أتى الى المقاطعة من كل المدن والقرى والمخيّمات وغصت بهم المقاطعة والشوارع المحيطة بها، ولم تنجح الترتيبات البروتوكولية في الاستقبال الرسمي الذي أعدّه برتوكول الرئاسة، ونجح الاستقبال الشعبي نجاحا مذهلا، وهو ذروة وبلاغة الحب الذي يليق بقائد شعبي عز نظيره.
***
اغتالوا الجسد، وبقي الرمز
اغتالوا الجسد، لكنهم لم يستطيعوا اغتيال الرمز.
ظل ياسر عرفات حاضرا فينا وبيننا، ظل رمزا خالدا نتفيأ ظلال أمجاده ونستنشق عطر مسيرته، ونستبطن قوّة البطولة في بطولة قيمه وسجاياه.
ياسر عرفات الرمز الخالد يتصدر الصفحة المشرقة في تاريخنا، فحياته كانت منذورة بلحظاتها وساعاتها وأيامها وسنينها وعقودها للقضية وللشعب الفلسطيني، لم تكن له حياة خاصة كما للآخرين، فقد كانت حياته سلسلة من المعارك، معارك عسكرية تحت سقف النار، ومعارك سياسية تحت سقف الزمن المديد، وحياة حافلة بالإنجازات ووضع فلسطين في صدارة المشهد والخارطة الدولية، وأوصل عدالتها الى عمق الرأي العام العالمي، والى قلب الأخلاقيات الإنسانية.
من الصعب الإحاطة بحياة ومسيرة هذا القائد العظيم في هذه المساحة المخصصة لهذا المقال، فمسيرته مسيرة شعب يصنع في كل لحظة تاريخا، ودروبه هي دروب الحرية التي سلكها قادة وفدائيون ومثقفون وابناء بلد وشباب مخيمات ونساء وأشبال وزهرات.
في ذكراه العطرة التي تزهر في كل الفصول نردد: العهد هو العهد والقسم هو القسم.
ونردد معه: يا جبل ما يهزك ريح.
ونردد معه: نرى الضوء في نهاية النفق.
ونردد معه: ليس منّا وليس فينا من يفرط بذرة من تراب القدس.
رحل ياسر عرفات بشموخ السنديان، رحل رجل عصره وبطل زمانه. رحل تاركا وديعته وثوابته: عودة، تقرير مصير، دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس.
رحل عرفات تاركا ارثا كفاحيا، وشعبا حيّا، ورفاق درب يكملون المشوار.
بقلم: يحيى يخلف عضو مجلس إدارة مؤسسة ياسر عرفات